عرض مشاركة واحدة
قديم 10-06-2018, 04:30 AM   المشاركة رقم: 21
المعلومات
الكاتب:
اسد الاطلس الموري
اللقب:
مدير عام
الرتبة


البيانات
التسجيل: Jan 2017
العضوية: 29658
المشاركات: 2,810 [+]
بمعدل : 1.07 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
اسد الاطلس الموري غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : اسد الاطلس الموري المنتدى : الحضارة الاسلامية
افتراضي

القرويين: قصة أقدم جامعة في التاريخ
إعداد : أحمد الظرافي
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلى الناس أجمعين.
" ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا " (الكهف:10)
وبعد:
"هـذا المسـجد الذي يعتبره الباحثـون في التـاريـخ المغـربي أنه ليس فقـط مسجداً لأداء الصلـوات، ولكنـه جامعةً علميـة، لو لم يمـنّ الله بهـا على أهـل المغـرب ... لكـان ربّمـــــا يـدين بـدينٍ غيـر الإســلام، ويتـكلم بلغـةٍ غيـر لغـة القــرآن
[1] "
قائل هذه العبارة هو الدكتور عبد الهادي التازي الدبلوماسي والمؤرخ المغربي المعروف ، وأما المسجد المشار إليه فهو مسجد القرويين الجامع ، في مدينة فاس المغربية ، والمعروف أيضا باسم " جامعة القرويين ".
فما هي قصة هذا المسجد الجامعة؟
هذا ما سأحاول الإجابة عليه من خلال هذا البحث إن شاء الله، والذي تم إعداده عن بعد بالاعتماد على المعلومات المنشورة والمتاحة على شبكة الانترنت. وأسأل الله المغفرة والرضوان.
أولا: مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي
كان المسجد هو النواة الأولى للمدرسة في حضارتنا، فلم يكن مكان عبادة فحسب بل كان مدرسة يتعلم فيها المسلمون القراءة والكتابة والقرآن وعلوم الشرعية ( ؟ الشريعة) واللغة وفروع العلم المختلفة [2] .
ذلك أن " مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي، تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي، فهو ساحة للعبادة، ومدرسة للعلم، وندوة للأدب، وقد ارتبطت بفريضة الصلاة وصفوفها أخلاق وتقاليد هي لباب الإسلام[3] "
وفي كل مكان يصل إليه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها كانوا يبدأون (بـ) بناء المسجد فيتخذونه مكانا للعبادة، ومكانا للتعليم والإرشاد، والإفتاء وتنظيم شؤون المسلمين، وبذلك صار المسجد في الإسلام جامعا للمسلمين للعبادة وجامعة للعلم والتعليم، وهكذا رأينا المسجد الحرام في مكة يصير بعد فتحها جامعة كبرى يتصدر في حلقاته كبار الصحابة ومن بعدهم كبار التابعين، ثم أئمة العلماء إلى يومنا هذا. وهكذا كان مسجد عمرو بن العاص في مصر، والمسجد الأموي في دمشق، ومسجد القيروان بتونس، ومسجد قرطبة، ومسجد فاس الذي صار جامعة القرويين، ومسجد الزيتونة في تونس الذي صار بعد فترة جامعة الزيتونة[4] .
ثم أقيم بجانب المسجد الكُتّاب، وخصص لتعليم القراءة والكتابة والقرآن وشيء من علوم العربية والرياضة (...) ثم قامت المدرسة بجانب الكُتّاب والمسجد، وكانت الدراسة فيها تشبه الدراسة الثانوية والعالية في عصرنا الحاضر[5] .
وكان التعليم في المسجد أو الجامع – في بداية العصر الإسلامي – يقتصر على تعليم القرآن الكريم ( قراءة وحفظا ) وتفسير العقائد. ومع الزمن تطور التعليم في المساجد وتقدم بحيث أصبحت الدروس تشمل موضوعات في القرآن الكريم وتفسيره والحديث الشريف وشروحه. ومع أن الحضارة الإسلامية عرفت, في تطوّرها الصعدي, أماكن متعددة للتعليم, فقد ظل المسجد والمسجد الجامع مكاناً لأنواع من العلم والتعليم إلى يوم الناس هذا . وقد كانت بعض هذه الجوامع تضيف إلى الدروس التفسيرية والخاصة بالحديث والفقه أموراً أخرى كاللغة وفروعها والتاريخ، لا من حيث إنها تاريخ أو لغة، لكن من حيث إنها تعين على فهم الموضوعات الدينية .
وكان هناك نوع من التنظيم في العلاقة بين المكتب والكتُّاب والجامع. فكان التلميذ النابه بعد أن يجتاز سنوات في المكتب تتراوح بين ثلاث وخمس، وسنوات خمساً في الكُتّاب، ينتقل في سن العاشرة أو ما إليها إلى المساجد والجوامع ليتابع دروساً متقدمة في الشئون الدينية على اختلافها. ومع الزمن أيضا تقدمت مساجد معينة على سواها وأصبحت مراكز للعلم للمنطقة التي تحيط بها، وقد تكون واسعة. وقد ميّزت ثلاثة جوامع نفسها, فأصبحت تلقى فيها الدروس على مستوى أعلى من الكلية بحيث يحسبها المؤرخون ( جامعات إسلامية ) وهي الأزهر في القاهرة، والزيتونة في تونس، والقرويين في فاس[6]
وتجدر الإشارة إلى أن لفظ الجامعة Universitus كان اصطلاحا قديما يطلقونه – والكلام هنا حول الأوروبيين - على ما يُدعى اليوم بالرابطة أو النقابة ، ثم انحصر الاصطلاح مع الأيام ليقتصر على اتحادات المشتغلين بالعلم والتعليم من أستاتذة (؟ أساتذة ) وطلاب[7] .
أي:" أن كلمة جامعة للمؤسسة التعليمية تعد من المصطلحات المعاصرة، إذ أن مثل هذه المؤسسات التعليمية كان يطلق عليها في العهود الإسلامية القديمة المسجد الجامع، الذي يجمع بين المصلين والمعلمين. وعليه قالوا جامع بغداد والجامع الأموي وجامع الأزهر وجامع الزيتونة وجامع القرويين الخ.. أما المسجد فهو مكان الصلاة في الغالب، وقد تُلقى فيه بعض الدروس مثل المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى الخ.. فمن هنا كان جامع القرويين وقتذاك هو جامعة القرويين، إذ فيه تدرس العلوم الشرعية والاجتماعية، فكان يدرس فيها ابن خلدون وابـن رشد (الجد) وغيرهما- كما سيأتي - ويطلق اليوم على جامع القرويين جامعة القرويين نظرا لوجود كليات تابعة لها في فاس ومراكش وبعض المدن المغربية الأخرى[8] .
وحول مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي وأهمية العلم والتعليم في حياتنا يقول الدكتور يوسف القرضاوي " كانت المساجد هي مدارس للعلم ، كانت الجوامع جامعات للعلم ، جامعاتنا العريقة الكبرى في العالم الإسلامي نشأت تحت سقوف الجوامع ، جامعة الأزهر أو جامع الأزهر ، جامعة الزيتونة أو جامع الزيتونة ، جامعة القرويين أو جامع القرويين ، هذه الجامعات نشأت على حصير الجوامع ، ثم أنشأ المسلمون المدارس لتعليم الناس بعد أن أخذ التعليم صفة تنظيمية أنشأوا المدارس وأوقفوا لها الأوقاف وحبسوا عليها الحبوس ، وكان المسلمون هم أمة العلم الأولى في العالم ، لعشرة قرون ، كان المسلمون هم سادة الدنيا ، تعلم الناس منهم في أوروبا وغيرها ، كانت مدارس المسلمين وجامعات المسلمين موئلاً لطلاب العلم ، يفدون إليه ينهلون من مناهل العلم عندهم ، وكانت كتب المسلمين في العلم هي مراجع العالم ، وكانت أسماء المسلمين ألمع الأسماء في دنيا العلم في العالم كله، وكانت اللغة العربية هي لغة العلم ، وكان الناس الذين يريدون أن يتعلموا العلم الحقيقي يحاولون أن يتقنوا العربية ، كما نحاول نحن في عصرنا دراسة الإنجليزية أو الألمانية أو الفرنسية [9] "
***
ثانيا: أسبقية جامعة القرويين تاريخيا
يعتبر مسجد القرويين كمؤسسة تعليمية، هو الأقدم والأعرق بروزا من الناحية التاريخية مقارنة بكلٍ من مسجد وجامع الزيتونة في تونس، ومسجد وجامع الأزهر في القاهرة.
كما تعتبر جامعة القرويين – وفقا لآراء عددٍ من الباحثين الغربيين والعرب - أقدم جامعة في العالم الإسلامي، على الإطلاق، إن لم يكن في تاريخ العالم.
ويتحدث عن ذلك الكتاب المرجعي الذي أصدره حديثاً د. أحمد الحفناوي بعنوان «جامعة القرويين في المغرب: تاريخها التعليمي وعطاؤها الفكري والسياسي 245-1393هـ/ 859-1973م» (القاهرة، 2000)[10] ."
وتمثل القرويين - جامعا وجامعة - أبرز وأعرق الجامعات الإسلامية، فهي رمز من رموز الهوية الإسلامية وصرح من صروح الفكر والثقافة في العالم، جمعت بين الأصالة والمعاصرة والتجديد وانتشرت منها أنوار المعرفة والحكمة والشريعة في كل أرجاء المغرب والعالم الإسلامي، كما اقتبست منها الحضارة الإنسانية روح المعرفة الدينية المتفتحة وأسس الانتعاش الحضاري[11] .
وإن كان: لا يعرف بالتحديد تاريخ بدء الدارسة المنتظمة – في القرويين- لكن المعروف أنها بدأت حينما اتسعت الأروقة والأعمدة الني كان يلتف الطلبة حولها على شكل درس أو مجلس[12] وكان هناك: ثلاثمائة وستة وستون عموداً يرتكز عليها سقف المسجد بقبابه الجميلة وزخارفه البديعة، فيما هناك أربعة عشر باباً، كل بابٍ يؤدي إلى واحد من الأسواق المختلفة، ذلك لأن فأس القديمة كانت تخرِّج الحرفيين والتجار والعلماء على حدٍ سواء[13] .
وكانت العلوم التي تُلقن في رحابها تضاهي أو تفوق مستوى العلوم المدروسة في كبريات الجامعات ومعاقل العلم شرقاً وغربا[14] وحسب موسوعة جينيس للأرقام القياسية العالمية فإن هذه الجامعة هي أقدم واحدة في العالم، والتي لازالت تُدرس حتى اليوم[15] .
ونقل الدكتور " عبد الهادي التازي " عن " كريستوفيتش " في مقالته – أو بالأصح كتابه عن جامعة القرويين - أن جامعة القرويين " أقدم مدرسة كلية علمية في العالم " وأن من جملة من تلقى علومه في هذه الكلية (أي القرويين) من الأوروبيين " جيربرت Gerbert" أو البابا " سلفستر " وهو أول من أدخل إلى أوروبا الأعداد العربية [16] .
ويـُذكر أن هذا البابا :" تولى البابـوية في روما لأربع سنوات من عام 999م حتى وفاته عام 1003م، وهو أول فرنسي يتولى البابوية، وكان من قبل قد درس في جامعة قرطبة العلمية[17] .
كما: أن " ديلفان في كتابه فاس وجامعتها يقول: "مدينة فاس دار العلم بالمغرب التي لها جامعة القرويين تعد أول مدرسة في الدنيا" (...) وكتب المستشرق الروسي جوزيه كريستوفيتش عن جامعة القرويين فقال: "إن أقدم كلية في العالم ليست في أوروبا كما كان يظن بل في إفريقية في مدينة فاس، فقد تحقق بالشواهد التاريخية أن جامعة القرويين كان يتوارد إليها الطلبة من أنحاء أوروبا، فضلاً عن بلاد العرب الواسعة" وذكر الكاتب البريطاني روم لاند "شيد في فاس في أيامها الأولى : جامع القرويين الذي هو أهم جامعة وأقدمها، وهنا كان العلماء منذ ألف سنة يعكفون على المناظرات الفلسفية والأبحاث الدينية، وكان المثقفون يدرسون التاريخ والعلوم والطب والرياضيات ". ويؤكد عددٌ من المستشرقين أن الدولة الإسلامية عرفت نظام الجامعات قبل الدول الغربية، وأن جامع القرويين وجامع الأزهر وجامع الزيتونة أسبق من جامعات السوربون وكمبردج وأوكسفورد[18] ."
وعلى الرغم من أن المصادر تكاد تجمع على أسبقية القرويين، في الظهور كمنارة علمية شامخة في العالم الإسلامي - فإن عماد عجوة الباحث في الآثار الإسلامية يشير إلى ما يخالف هذا الرأي، وهو أسبقية جامعة الزيتونة في الظهور على جامعة القرويين حيث قال: " ولقد سبق جامع الزيتونة كلاًّ من الجامع الأزهر في القاهرة وجامع القرويين في فاس في كونه أقدم جامعة إسلامية يعود إليها الفضل في أداء دورها كمساجد ومعاهد للتعليم ساهمت في بناء النسيج الثقافي لأجيال الأمة[19] ."
ومن الباحثين من يجعل السبق لجامعة قرطبة في الأندلس، ومن هؤلاء الباحث رجاء علي في مقال له بمجلة " البيان " حيث يقول " وللمسلمين السبق في تأسيس الجامعات وأولها «جامعة قرطبة» بالأندلس ثم «جامعة القرويين» بفاس ثم «جامعة الأزهر» بمصر[20] "
وهذا الرأي هو الأقرب للصحة من وجهة نظري، إذ أن جامعة القرويين إنما ازدهرت في العهـد المريني – كما سيأتي – أي بعد سقوط قرطبة، واستفادت القرويين الكثير من خبرة ومؤلفات العلماء الذين نزحوا إليها من الأندلس بشكل عام، ومن قرطبة بشكل خاص، هربا من بطش النصارى المتعصبين. مثلما استفادت من العلماء الذين نزحوا إليها من مدينة القيروان، هربا من عسف الفاطميين الذين حاولوا فرض مذهبهم الإسماعيلي الشيعي بالقوة على علماء أهل السنة، وقتلوا الكثيرين منهم بعد قيام دولتهم في أواخر القرن الثالث الهجري واتخاذهم مدينة المهدية عاصمة لدولتهم – قبل أن يتم نقلها إلى القاهرة في وقت لا حق.
ويأتي عدم التطرق لجامعة قرطبة في معرض الحديث عن الجامعات الإسلامية التقليدية مثل القرويين والزيتونة والأزهر ، نظرا لكون جامعة قرطبة، زالت من الوجود بسبب الحقد الكاثوليكي الصليبي بعد سقوط قرطبة ، والتي نجم عنه تدمير واستئصال كل منجزات المسلمين وحضارتهم ومن ذلك المساجد والجامعات والتي تم تحويلها إلى كنائس أوإلى ثكنات عسكرية.
ومن هنا فإن الحديث عن الجامعات الإسلامية التقليدية عادةً ما يكون حول تلك الجامعات التي ظهرت قبل ألف عام أو يزيد ، ولا تزال قائمة حتى اليوم ، - وإن كان قد تم تهميشها وتجميد دورها في العقود الأخيرة - ومن أهمها – بطبيعة الحال - الجامعات الإسلامية التقليدية الثلاث ( القرويين والزيتونة والأزهر ).
ومن حيث التأسيس أيضا أشار المؤرخ الدكتور عبد الهادي التازي إلى أسبقية الزيتونة للقرويين تأسيسا، ففي إجابته عن سؤال حول جامعة القرويين- خلال احتفاء اثنينية الشيخ عبد المقصود خوجة به - أوضح أنها أسست قبل الأزهر الشريف وبعد الزيتونة[21] .
ولا خلاف حول هذه النقطة فالزيتونة – وفقا لأحدى الروايات - يرجع إنشاؤه إلى نهاية القرن الأول الهجري ، بينما القرويين في منتصف القرن الثالث الهجري ، ثم بعد ذلك أنشأ الفاطميون الأزهر في القرن الرابع الهجري. وحديثنا هنا إنما يدور حول الأسبقية في الظهور – كمنشأة تعليمية – وقد فصلنا القول في ذلك أعلاه.
***
ثالثا: نشأة جامع القرويين وخلفيتها التاريخية
يُعزى بناء مسجد القرويين إلى فاطمة بنت محمد الفهري ( أم البنين) عام 245 هجرية، الموافق سنة 859 ميلادية[22] .
وكان محمد بن عبد الله الفهري والد هذه السيدة الفاضلة، قد وفد إلى فأس مع من وفد إليها من العرب القيراونيين ( نسبة لمدينة القيروان)، للتوطن فيها، وذلك بعد فترة قصيرة من تأسيسها. وقد توفي بعد استقراره في فاس وترك ثروة كبيرة لابنتيه فاطمة ومريم، اللتين رغبتا في استثمار هذه الثروة في أعمال الخير[23] .
ولكي تكون الصورة واضحة أمامنا حول نشأة مسجد وجامع القرويين، وهذا الاسم الذي سمي به والظروف التاريخية الذي نشأ فيها ، فإننا سنبدأ القصة من أولها.
تقول الروايات الواردة في كتب التاريخ أن مدينة فأس كانت في الأصل مدينة بربرية، ثم وضع إدريس الأول تخطيطها إبان مجيئه إلى المغرب في أواخر القرن الثامن الميلادي، وتحديدا سنة 789م، حتى تكون عاصمة لدولته- وهي أول دولة إسلامية أُسست بالمغرب - وأول عاصمة فلكية بالمعنى الحقيقي تعرفها المغرب - هي فاس[24] . ولتكون – فاس - في نفس الوقت «دار علم وفقه» كما ورد في خطاب الإمام إدريس الذي لجأ إلى المغرب وأسس هناك دولة الأدارسة[25] .
ثم وفد إليها عشرات العائلات العربية من القيروانيين عاصمة ولاية أفريقيا – في ذلك الزمان الغابر - ليقيموا أول الأحياء. وقد أطلق على هذا الحي والواقع بالضفة الشرقية من وادي فاس اسم "عدوة القيروانيين" ولكثرة الاستعمال خُففت فأصبحت " القرويين[26] .
ثم بعد ذلك وفد إليها الأندلسيون الذين أرغموا على الهجرة من الأندلس ليكونوا حي الأندلسيين[27] ، أو عدوة الأندلس، كما كانت تسمى-ومعظمهم من المثقفين والحرفيين الذين أغنوا المدينة بمعارفهم وخبـراتهـم[28] ·
واستجدت فاس في العمران – بعد ذلك – كما يقول ابن خلدون في تاريخه - وبُنيت بها الحمامات والفنادق للتجار وبنيت الارباض (‏ أي الأحياء الجديدة‏ ، جمع ربض)،‏ ورحل إليهـا النـاس مـن الثغور القاصية[29] -
والأمر المهم هنا هو" أن هاته الهجرة التي قام بها القيروانيون والأندلسيون إلى مدينة فاس كانت سببا في نهضتها العلمية والاقتصادية وسببا في ازدهارها وترقيتها وعاملا فعالا في نشر اللغة العربية بين أرجائها وتعميم هاته اللغة من بعد في بلاد المغرب.(...) وكانت أريحية المسلمين تدعوهم إلى الاهتمام بشؤون دينهم وإلى العمل على تركيز أسسه وإلى إنفاق الأموال في سبيل ذلك[30]
واتفق أن نزلتها امرأة من أهل القيروان تسمى أم البنين بنت محمد الفهري، وقال ابن أبي ذرع اسمها فاطمة وأنها من هوارة‏.‏ وكانت مثرية بموروث أفادته من ذويها واعتزمت علـى صرفـه فـي وجـوه الخيـر فاختطـت المسجـد الجامـع بعـدوة القروييـن اصغـر مـا كـان (يوم السبت أول رمضان ) سنـة خمس وأربعين ( ومائتين للهجرة )، ( 859 م)، في ارض بيضاء - كان يصنع بها الجص - كان اقطعها الإمام إدريس وانبطت[31] بصحنها بئراً شراباً للناس ، فكأنما نبهت بذلك عزائم الملوك من بعدها ، ونُقلت إليه الخطبة من جامع إدريس لضيق محلته وجوار بيته‏‏[32] .
فالجامع نموذج للعمل الإحساني[33] الخيري الوقفي – وفقا لذلك - . وهو يعتبر " بحق مفخرة من مفاخر المرأة العربية المسلمة ومن أقوى مظاهر الرقي الفكري عند نسائنا في الماضي[34] "
ومع أهمية هذه المنشأة الحضارية في تاريخ بلاد المغرب إلا أن أحداً في الدائرة المحيطة بي في المشرق – والكلام للدكتور محمد الأرناؤوط - لا يعرف أو يصدق أن امرأة هي التي بنت هذا الصرح، وأن أختاً لها بنت صرحاً مماثلاً، وأن من المستغرب أن يتم تغييب اسم المرأة التي بنت هذا الصرح العظيم حتى كأنه يبدو أن بناء المساجد هو من اختصاص الرجال في بلاد المسلمين. والأهم من هذا أن بانية هذا المسجد قد بادرت إلى ذلك في إطار الوقف، وهذا من شأنه أيضاً أن يعيد الاعتبار إلى إسهام المرأة في الوقف، أي في المجال الذي يبدو أيضاً كأنه حكر على الرجال وهو ليس كذلك[35] .
وهذه السيدة العربية الفهرية، صاحبة هذا العمل الخيري الجليل " كانت عالمة فاضلة محسنة، كما كانت أختها مريم التي بنت جامع الأندلس في فأس أيضا[36] ." وهو المسجد الجامع الذي: ظل المركز الثاني للتدريس بعد القرويين، كما ظل محل تنافس بين كبار العلماء الذين كانوا يرحلـون إليه من القرويين قصد الفـوز بدرس فيـــه[37] .
ويُذكر أنها – أي فاطمة الفهرية - تعهدت والتزمت باستخراج كل موارد البناء من نفس البقعة تحـريا، وأنها ظلت صائمة محتبسة إلى أن انتهت أعمال البناء وصلت في المسجد شكرا لله[38] .
وعلى ذلك يكون الحديث حول تسمية المسجد - ومن ثم الجامعة فيما بعد – بهذا الاسم ( القرويين ) أمرا مفروغا منه ، فهو إنما أتى من النسبة إلى المنطقة أو العدوة التي أقيم بها، وهي منطقة أو عدوة العرب القرويين، سكان مدينة فأس الأوائل، الذين وفدوا إليها من مدينة القيروان- حاضرة أفريقية في ذلك الوقت- والوقعة على الضفة اليسرى لوادي فأس، وتمييزا له عن مسجد الأندلسيين المبني في عدوتهم على الضفة الأخرى.
ومن المؤسف – كما يقول الدكتور المؤرخ محمد الأرناؤوط من جامعة أهل البيت في الأردن - في مقالة له - أنه: لا يوجد «ترجمة تذكر ولو قصيرة في مصادر المغرب الأقصى ولا مصادر المغرب الأدنى» عن السيدة فاطمة أو السيدة مريم![39] أبنتا محمد الفهري طيب الله ثراهما.
***
رابعا: جامعة القرويين قلب فاس النابض
وتاريخيا: تعتبر فاس عاصمة المغرب العلمية، وعاصمة التقاليد والحضارة العريقة، وهي أول عاصمة للمملكة المغربية منذ عهد أدريس الثاني سنة 808. كما اتخذها أكبر عدد من الملوك الذين تعاقبوا على حكم المغرب عاصمة لهم.. وبها توجد أكبر مآثر الحضارة الإسلامية في البلاد، وأبرزها جامع القرويين سلطان جوامع المدينة[40] . حيث يعد جامع القرويين أول جامعة شُيدت بالعالم الإسلامي، وظلت منذ تشييدها في أواخر القرن الثالث الهجري، معلمة علمية دينية، ومنارة مشعة في الغرب الإسلامي، وهي من بين المعلمات التي جعلت من مدينة فاس عاصمة علمية للمملكة المغربية[41] . وذلك على مدى الإحدى عشر قرنا الماضية من تاريخها ومن تاريخ الإسلام والمسلمين فيها، وحتى اليوم.
ومن المعروف أن جامع القرويين أصبح يرادف فاس ذاتها، وأصبحت فاس ترادف المغرب. وتجدر الإشارة إلى أن المؤرخ المغربي المعروف د. عبد الهادي التازي قد خصص ثلاثة مجلدات كبيرة عن هذا الصرح الحضاري الذي سماه «المسجد الجامعة» (بيروت 1972)، إلا أنه يعترف بصراحة أنه «مقصر في حق هذه القديسة المدللة التي لولاها لما بقي الحرف العربي ولما ازدهر الوجود الإسلامي في هذه الديار». ولذلك عوض ذلك حين خصّ فاطمة أم البنين بما تستحقه في كتابه اللاحق «المرأة في تاريخ الغرب الإسلامي» (الدار البيضاء، 1992)[42] .
ولمدينة فاس توأمان هما مدينة غرناطة بالأندلس، و(مدينة ) دمشق بسورية «الشام»، باستثناء ما جد في بنائها[43] . وقد " وصفها المراكشي بأنها «حاضرة المغرب وموقع العلم منه، اجتمع فيها علم القيروان وعلمة قرطبة "[44] . وكان يُقال عنها إن العلم كان ينبع من صدور أهلها، كما ينبع الماء من حيطانها[45] . أو أرضها – كما ورد في قول آخر –
وقيل أيضاً حول ذلك: وُلدَ العلم بالمدينة، ورُبِّي بمكة، وطُحن بمصر، وغُربل بفاس[46] .
وقد تقلبت الأهواء بمدينة فأس. ففقدت مكانتها السياسية ولكنها لم تفقد مكانتها العلمية والروحية، وعندما تدخلت أوربا في المغرب وفقدت كل مدن المغرب بما فيها مراكش قوتها السياسة، ظلت فأس محافظة على قيمتها المعنوية والأخلاقية فهي التي حفظت جذوة التراث الإسلامي مشتعلة في هذه البقعة وبالتالي حافظت على جانب مهم من جوانب الشخصية المغربية" العربية المسلمة، وذلك بفضل هذه الجامعة الإسلامية العريقة التي لا تزال ممتدة تحل الجزء الأكبر من قلب المدينة، بصومعة مسجدها الجامع الشامخة التي يبلغ علوها أكثر من ثمانين مترا[47] ، والتي تلفت النظر إليها من بعيد.
وكانت فاس عاصمة لأفريقيا والأندلس لقرون طويلة، وحاولت مدينتا مكناس ومراكش أن تنازعها في ذلك فلم تفلحا، وحاول الاستعمار الفرنسي أن ينقل العاصمة إلى الرباط، فلم يتمكن إلا في الجانب الإداري، لتظل فاس العاصمة الفكرية والاجتماعية للمغرب، سواء خلال فترة استعماره، أو بعد الاستقلال[48] .
وذلك – طبعا - بسبب فضائل هذا الجامع على العالم الإسلامي. - وتعد فاس – في الوقت الراهن - ثالث أكبر المدن المغربية بعدد سكان يقارب المليون ونصف مليون نسمة ) إحصائيات 2004)[49] " .
***
يتبع ....









عرض البوم صور اسد الاطلس الموري   رد مع اقتباس