لمن يريد اقتناء الموسوعة العلمية للرموز الاثريه من تأليف الدكتور غالينوس ان يبادر الى مراسلة الدكتور غالينوس على الخاص


استرجاع كلمة المرور طلب كود تفعيل العضوية تفعيل العضوية قوانين المنتدى
العودة   منتدى كنوز ودفائن الوطن > المنتديات الادبيه > قسم القصص و الحكاوي و الروايات > القصص والحكاوى

اعلانات

  انشر الموضوع
إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 27-07-2012, 02:30 PM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:
ابو فتحي
اللقب:
مدير عام سابق
الرتبة


البيانات
التسجيل: Jun 2010
العضوية: 2821
المشاركات: 531 [+]
بمعدل : 0.11 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو فتحي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:
إرسال رسالة عبر Skype إلى ابو فتحي

المنتدى : القصص والحكاوى
بعد حُبٍّ جميل نقي لم تدنّسه المُحرَّمات تزوَّج أحمدُ زينبَ؛ حيث كانا يسكنان في حيٍّ واحد، وتربيا ضمنَ بيئة واحدة، كانت الأَوْلَوِيَّة فيها للدين دائمًا.
عاش أحمد وزينب كلَّ حياتِهما في أسعد ما يكون بين المرء وزوجه، ولم تُضِفْ تلك السنون إلى حُبِّهما إلاَّ الحيوية والاستمرار؛ حيث تَجمع بينهما مشاعرُ المودَّة والرَّحْمة والسكينة؛ حيثُ كان أول اهتمامات زينب هو إسعاد زوجها العزيز، وكان أحمد أيضًا لا يهمه إلاَّ إسعاد زينب الحبيبة إلى قلبه، ولا يكدِّر هذه المعيشة مكدِّر سوى أمر واحد لم يكن بيدهما.
فأحمد تاجر كبير ورجل أعمال ميسور الحال، والمال متوفر بين يديه مما أنعم الله عليه، فلا يَحتاجان إلى شيء إلاَّ توفَّر لهما، فكانت مَعيشتهما هانئة رغيدة مُنعَّمة، باستثناء هذا الأمر الذي ليس بأيديهما تغييره، ألاَ وهو الولد والذُّرِّية الصالحة التي لا تأتي إلا بإذن الله.
منذ أول زيارة لهما إلى الطبيب، عَلِمَا أنَّهما لن يُنجبا، وعلم أحمد أنَّه هو سبب هذا الحرمان، فهو العقيم، الذي لا ينجب، والأَمَلُ كما قال الطبيب: مستحيل إلا بإذن الله.
ومن يومها أصبح إنجاب الأطفال هو همَّ الزَّوجين الوحيد، فلم يَيْئَسَا يومًا، ولم يتركا طبيبًا إلاَّ وذهبا إليه ولكن لا فائدة.
ومضت الأيامُ والسنوات، واعتاد الزوجان هذه الحالَ، وهذا الحرمان، وأكملا حياتَهما مكتفِيَيْنِ بِحُبِّهما وبِرِّهِما لبعضهما البعض، آمِلَيْنِ من الله أنْ يرزقهما الولدَ يومًا ما.
بعد عدة سنين من زواجهما قَرَّر أحمدُ وزينب أن يتركا سوريا، ويذهبا للعيش في أمريكا؛ حتى ينمِّي أحمد تِجارته، ولعله يجد علاجًا له هناك.
عاش الزوجان باقي حياتهما في أمريكا، ونَمَت تِجارة أحمد، وأصبح من كبارِ رِجَال الأعمال في أمريكا، ولكنَّه لم يَجدِ العلاجَ الذي يكون سببًا ليرزقه الله الولد.
اقتنع الزوجان بقدرهما، وحَمدا اللهَ على ما وهبهما من مَحَبَّة وسعادة ورزق مبارك، وكان هذا الاقتناع نتيجةً لنقاشاتٍ وحوارات كثيرة كانت كثيرًا ما تُفْتَح بين الزوجين، والتي كان مَن يفتحها غالبًا هو أحمد؛ كونه يعتقد أنَّه السبب في حرمان الله لهما من الولد، ولأنه يشعر بأنَّ زينب حُرِمَت من نعمةِ الأمومة بسببه، فكان دائمًا يُبدي كلماتِ الأسف والاعتذار لزينب، ويتكلم عن حزنه؛ لأنَّها حرمت بسببه من أن تكون أمًّا، حتى‎ إنَّه فاجأها في يومٍ بأن عرض عليها حريتَها، وقال: إنَّه على استعدادٍ أن يُطلِّقَها رغم الألَم الذي سيسببه فراقُها له، ولكن ذلك كله يهون في سبيلِ سعادتِها، عندما تَجِد زوجًا آخر، وتنجب منه بإذن الله الولدَ الذي يَمنحها صفةَ الأم.
ولكنَّ هذا الكلامَ نزل على قلبِ زينبَ كالصاعقة، وغضبت يومَها أشَدَّ الغضب، ولامته على تَجرُّئِه؛ ليتفوه بهذه الكلمات المُؤلِمَة بالنسبة لها، ثُمَّ سألته بالله أنْ لا يعودَ لِمثلها مرة أخرى، وقالت له بعد كل هذا اللوم: أنا راضية بما قَسَمَه الله لي، وكما تعرف أنَّ لكل إنسان رزقًا معينًا يَخصه الله به، ولا يُمكن أن يَحصل على الرزق كله والله - تعالى - اختارَ لنا رزقنا، وهو سعادتنا وحبنا لبعض، وهذا النعيم الكبير الذي نحن فيه.
وآخرون اختار الله - سبحانه - لهم الذُّرِّية، ولكن رُبَّما حرمهم من المحبة أو المال أو الصِّحَّة، فلماذا لا نرضى بما قَسَمه الله لنا، ونصبر على ما حرمنا منه من نعمةِ الولد؟ ثُمَّ سألته قائلة: أَوَلا تُحِبُّ أن تكونَ من الشاكرين الصَّابرين؟ فكان لهذا الكلام وقعه الإيجابي على أحمد، فشعر بالسكينة والطمأنينة، ولكنه رد عليها قائلاً: ولكني أحزن لأجلك، فقاطعته وقالت: لنُنهِ هذا الموضوع، ولا نفتحه أبدًا، حتى يأذنَ الله لنا بأمر.
ومن ذلك اليوم لم يفتحْ هذا الموضوع قطُّ، ودارت الأيامُ، ومضى على زواجهما أكثرُ من عشرين سنة، وهُمَا راضيان برزقِ الله يَحمدانه ويَشكُرانه عليه، حتى جاء يومٌ دَخَل فيه أحمد على زينب وهو سعيد، وجهُه يضحَك، فسألته زينبُ عن سِرِّ هذه السعادة، التي تبدو على أسارير وجهه، فرد وهو مرتبك لا يكاد يُفهم الكلام الذي يتكلم به: خبرٌ بمالِ الأرض كلها، حلمنا يا زينب، حلمنا سيتحقق بإذن الله، فلم تفهم زينب أيُّ شيء عن قصدِه، فقالت: أيُّ حلم يا أحمد، وما الذي تقصده؟! قل لي بالله عليك.
فقال أحمد وهو يكاد يطير من الفرح: الولدُ يا أغلى الناس أصبحَ اليومَ مُمكنًا، أصبح بإمكاننا أن نُنجب بإذن الله، والأمل كبير، فردت عليه زينبُ ببرود لا يناسب فرحته وتوتره مطلقًا: وكيف ذلك؟ وما هذا الأمل الذي تتكلم عنه بهذه الثِّقَة، فأَثَّر ذلك البرودُ في أحمد، فصار أقلَّ حيوية؛ بسبب طريقتها، وقال: ولِمَ تسألينَ بهذه الطريقة؟! ألاَ يُسعدك أن نرزَق بالولد؟!
• طبعًا يُسعدني ولكني أتفاجأ من ثقتك بهذه الطريقة.
• وما الذي يَمنعني أنْ أثقَ بالله؟! فلقد التقيتُ اليومَ وأحدَ الأطباء وكلمته عن حالتي، وبَشَّرني أنَّ الطِّبَّ قد اكتشف علاجًا لحالتي بالذات، والأمل أكبر من 70%، فلِمَ تَحرمينني من أنْ أسعد وأهنأ؟
• سامحني - يا أحمد - ولكني أخاف من أنْ نعودَ لنحلم ونأمل، وفي النهاية نكتشف أن أحلامنا كلَّها كاذبة.
• إذا كان الطبيبُ نفسه هو مَن أكَّد لي هذه الحقيقة، وقال: إنَّ فرصتنا بالإنجاب كبيرة جدًّا - إن شاء الله - فَلِمَ نَيْئَس من رَوْحِ الله؟!
• أعوذ بالله من اليأس، وأرجو أنْ لا يَحرمنا الله، ولكن تدري أنِّي تجاوزتُ الأربعين من عمري، فأخشى أن تصبحَ قادرًا على الإنجاب، وينتقل السبب منك لي.
• وأين الله إذًا؟! إن كنتِ أنت تتكلمين بهذا الكلام، فماذا يصنعُ مَن ليس له صِلَة بالله أصلاً، فأين إيمانك بالله؟!
• أستغفر الله، سامحني يا رب، فاتِّكالي عليك وحدَك.
أجرى أحمدُ الفحوصاتِ هو وزوجه، ثُمَّ تعالَجَ أحمدُ، ولم تَمضِ شهورٌ إلاَّ وحملت زينبُ، وطار الزوجان فرحًا وسعادة، فالشيء الوحيدُ الذي ينقصهما أصبحَ قابَ قوسين أو أدنى.
ومن لحظةِ الحمل صار لزينبَ هَمٌّ جديد لم تكن تُفكِّر فيه مُطلقًا، وهو تربيةُ وَلَدِها، وكيف سيعيش في أمريكا بلدهما الحالي، والذي يختلف كُلَّ الاختلاف عن سوريا بلدهما الأصلي، وهل سيقدر هذا الولد على مُقاومة كلِّ الشَّهَوات، التي تنتشر بأمريكا، وهذا التفسخ الأخلاقي الذي تتصف به.
فبالنسبة لزينب ولأحمد أيضًا الدينُ هو في المقام الأول، والحفاظُ عليه مَطلب لا يُسَاوَم عليه على الإطلاق، ولذا كان هذا الموضوع الحديث شِبْهَ الوحيد، الذي تفتحه زينب مع زوجها، ولكنَّه لم يكن يُوافقها في آرائها في أغلب الأحيان، ويقول لها: إنَّ الإنسانَ يتبع أهله وطريقةَ تربيتهم له، ولكنَّ هذا لم يَكن يُقنِعُ زينبَ؛ ولهذا تطور معها الحال حتى طلبت منه أنْ يُصَفِّيَ أعمالَه في أمريكا؛ ليعودا إلى سوريا، فابنها هو الأهم، وهو أغلى مِن كُلِّ هذه التجارة، وحمايته ودينه في المقام الأول، ولكنَّ أحمد لم يسمع كلامَها؛ لعدم قناعته بهذا الكلام، ولهذا بدأت زينب تبحثُ وحدَها عن الطريقة التي تَحمي ولدَها من خلالِها من هذا المجتمع المتحلل.
ولدت زينبُ وأنجبت زهرةَ حياتِهما هي وأحمد، وكانت هذه الزهرة صبيًّا سَمَّيَاه مُحمدًا، وسعدا به أيَّما سعادة، وأصبح محمدٌ هو الفرحةَ التي زادت البيتَ إِشراقًا ومَحبةً وسُرُورًا، واستمرت زينبُ بمخاوفِها وبإقناعها لزوجها؛ ليعودا إلى سوريا حتى يَحفظا هذه النِّعمة، التي أنعم الله عليهما بها في سِنٍّ متأخرة.
ولأن أحمدَ لم يكن مُقتنعًا بكلامها، قرَّرت زينبُ أن تُجاهد هي وحدَها؛ لتحميَ ولدَها، ومن أولِ أيامه في هذه الدُّنيا أصبحت تتكلم معه وكأنَّه رجل أمامَها، وتتحدث معه وهي ترضعه، وهي تَحمله وهو بجانبها، وتقول له: يا محمد، أنت مسلم، فلا ترضَ بغيرِ الإسلام دينًا، فهو الدين الحق، ووَحِّدِ اللهَ الذي هو وحدَه مَن يَستحق العبادةَ والألوهية.
واستمرت على هذا الطريق، فكلُّ ما تعرفه عن الدين تُعلِّمه إيَّاه وكأنه يفهم ما تقول، وتُحَدِّثه عن خَلْقِ السموات والأرض، وقُدرةِ الله، وكَيْفَ كان في رحمها، وحفظه الله من غير تدخُّل منها ومن أبيه، ثُمَّ أتى به إلى الدُّنيا؟ وكيف يحفظ اللهُ جميعَ عبادِه كذلك؟ وكان أحمد يشاهد صُنعَ زينب أحيانًا، ويسمع معظمَ كلامها لابنها، ويدهش من إصرارها عليه؛ حتى إنَّه دخل عليها مَرَّة، وهي تقرأ وِرْدَها بصوتٍ عالٍ ومُحمد بجانبها، فسلم عليها، وسألها: هل بَقِيَ لها الكثير؛ لتُنهِي الوردَ، أو لا؟ فردت: إنَّه لَم يبقَ لها إلاَّ صفحتان، وتقوم لترى حاجاتِه، فأراد أخذَ الولد، وأخبرها أنَّه سيأخذه؛ ليلعبَ معه ريثما تنتهي، فقالت بلهفة: لا، لا، اتركْه؛ لأُنْهِيَ الورد.
• وما دخل محمد بوردك؟ سألعب معه حتى تنتهي.
• هذا وِردي وورده أُسْمِعه إيَّاه؛ ليَسْمَعَ القرآن الكريم كاملاً، ويعتاد عليه، وسأعيدُه له بشكل مُستمر بإذن الله.
• لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، ما بكِ يا زينب؟! وهل يفهم الطفلُ كلَّ هذا الكلام، الذي تعلّمينه له، فيومٌ تُحدثينه عن الوحدانية، وآخر تحدثينه عن الخلق وقدرة الله، وغير ذلك واليومَ تَقرئين له القرآن!
• نعم - يا أحمد - أرجوك، لِمَ لا تفهمني؟! فأنا لا أعمل شيئًا سوى أنِّي أزرعُ الإسلامَ فيه، حتى إنْ صادفَتْه الشَّهَوات، وإن غابَ عن الإسلام لسبب ما أو نَسِيَ، تذكّره هذه الدروس.
• أنا لستُ ضِدَّكِ، وسأُعِينك بحول الله على تربيته، ولكن الآن هو رضيعٌ لا يفهَم، وأَعِدُك من بداية نُطقِه أني سأعلمه القرآن بعون الله.
• وما يُدريكَ أنَّنا سنبقى لذاك اليوم؟
• هل تعلمين الغيبَ، وأننا سنموت؟
• أنا لا أقول هذا، ولكن عندي خوفٌ لا أستطيعُ تفسيرَه، ثُمَّ افرض أنَّنا عشنا، فأمريكا مُخيفة وأخاف من أن لا يقاوم شهواتِها؛ لذلك أغرسُ فيه القرآنَ والإسلام؛ ليكونَ هذا الغرسُ وقايةً له.
• لماذا أنت مُصِرَّة أن تُخيفيني بكلامِك، ولكن أتعلمين لِمَ يَحدث كلُّ هذا معنا؟ هذا لا يحدث إلاَّ لأنَّنا حُرِمْنَا أكثرَ من عشرينَ سنة، فلَمَّا رَزَقنا الله لَمْ نستوعبْ هذا الأمرَ، وأصبحنا نَخاف عليه من النسمة.
• لِمَ تفسره بهذا التفسير، وتصورني وكأنني مجنونة؟ يا أحمد أؤكد لكَ أنِّي مستوعبة لهذه النعمة، وخوفي ليس إلاَّ خوفًا طبيعيًّا، ولا أعملُ أكثرَ مِنْ اللاَّزِم، فأنا فقط أغرس الإسلامَ فيه، حتى إن كبر ولم أكن معه، تَكُن تربيتي وغَرسي هو الذي يبقى، ويرافقه؛ ولهذا أعود وأطلب منك أنْ نعودَ إلى سوريا، فالدين هو الأهم لهذا الولد، أهمُّ له من المال الذي نجمعه، ومن النعم التي تَملأ أمريكا.
• أعدك أنِّي سأفكر في كلامِك بشكل جِدِّيٍّ؛ لأنَّ كلَّ ما تفعلينه بدأ يؤثر فيّ من غيرِ أن أشعر.
• شرح الله صدرَك يا أغلى الناس، شَرَحْتَ صَدري، والآن سأكمل وردي، وأقوم لأجهز لك طعامَ الغداء.
مَضَتْ شهورٌ وبَدَأ محمد يكبر، وأبواه يسعدان به، فيومًا يُناغي ويومًا يَضحَك، وآخر يَحبو فيه، ومضت الأيام، وبدأ أحمد يصفي أعمالَه في أمريكا بعد أنْ بدأ يقتنع بكلامِ زوجته، ولكنه كان يُصفي أعمالَه شيئًا فشيئًا دون استعجال، وظَلَّت زينبُ على نَهجها في تربيتها لولدها الحبيب، حتى إنَّ أحمدَ أصبح يكلمه عن الإسلام، وعن عروبته، وعن بلده، كما تصنعُ زوجته، وبرز ذلك جليًّا في السنة نفسها التي هي 1948م حين احتلَّ اليهودُ أرضَ فلسطين المقدسة، وقامت دولتهم المزعومة، وهجَّروا الشعبَ الفلسطيني، وطردوه من أرضه ووطنه.
أثَّر هذا الحدثُ في أحمد وزينب، وحزنا حُزنًا شديدًا، فهذه أرضٌ عربِيَّة، وأيُّ أرض؟ فهي المقدَّسة سلبت من العرب، ومَن سلبها؟! لقد سلبها أظلمُ الناس، وأكثرهم إفسادًا في الأرض، وبهذا أصبحت ملكًا شرعيًّا لهم بنظر العالَم، وكاد أحمد يُجَنُّ مِن كَمِّ الغيظ الذي يَملأ صدرَه؛ نتيجةَ ما حدث، وبدأ دون أنْ يَشعر يُكلم ابنَه الصغير عن هذا الحدث، ويُخبره عن فلسطين والأقصى، وعن قدسيتهما، وأنَّ عليه أن لا يرضى بهذا الواقع لَمَّا يكبر، وأنْ يُسخِّر حياته كُلَّها لنصرة دينه ومقدساته، فأصبح حالُ أحمد كحال زوجته في تلقين ابنهما كُلَّ ما يؤمنان به من الحق.
ولما جاء رمضانُ أخذت زينبُ ابنَها مع زوجِها في أحَدِ أيامِه المباركة إلى أحد المساجد البعيدة؛ لعدمِ وجود مسجدٍ في منطقتهما البَعيدة، فأصبحت تُكلِّمه عن المئذَنَة وشُمُوخِها، وكيف عليه أن يُشبهَها؟ وعن المسجد وسَعَتِه وسكينته، وكيف عليه أن يأخذ من ذلك سَعَةَ صَدْرِه وسكينته وشعوره بالطمأنينة؛ كونه مسلمًا، ثم عن معاني الصلاة، وبُعْده من خلالها عن كل فحشاء، وأيِّ مُنكر.
وهي على حالِها في تكليمها لولدِها اقتربَ مَوْعِدُ الإفطار، وصار المسلمون كخلية نَحل يُجهِّزون الطعامَ؛ ليأكلَ الناسُ، فهذه عادةُ المسجد لسنوات يُفطِّر المسلمين غنيَّهم وفقيرَهم؛ بُغْيَةَ الاجتماع والأُلْفَة، فأَثَّر هذا المعنى في زينبَ، فنَظَرت إلى وَلَدِها الرَّضِيع، ثم قالت: أترى - يا بني - المسلمَ وكَمْ هو رحيم رؤوف بإخوانه! وكم يُحِبُّ المسلم أخاه المسلم، فهنا لا فرقَ بين غنيٍّ وفقير، وهذا ما يعلمه ديننا لنا، فالمسلمُ الحقُّ هو الذي يرحم أخاه، ويَمشي في حاجته، والمسلم الحقُّ مَن يُنفق مالَه ونفسَه؛ نُصْرَة لدينه، وخدمةً لإخوانه، وهي على حالِها في هذا الكلام جاء أحمدُ يُنادي عليها؛ ليذهبا ليكونان بين المسلمين في هذا الجمع المبارك، يتناولان طعامَ الإفطار معهم.
أصبح عمرُ محمد سنةً ونصفًا، وخلال هذا الوقت كان أحمد مُستمرًّا في تصفيةِ أعمالِه، وقد أنهى مُعظمَها، وهو في رحلته لهذه التصفية سكن في منطقته التي تكاد تَخلو من العرب سوريٌّ جواهرجيٌّ، فتعرف عليه أحمد وسَعِدَ به كثيرًا، وحكى لزينب عنه فَسُرَّت لسُرورِ زوجها، ولأُنسه به، فمجرد أن يرى العربيُّ عربيًّا هناك، فهذا يشرحُ صدره، ثم كلمها عن عمله وإتقانه للمجوهرات التي يعملها، وللقلائد التي يمتاز بصناعتها يدويًّا، فردت عليه وهي تبتسم: يا إلهي، قلائد جميلة، إذًا لِمَ لَمْ تشترِ لي قلادةً، أو حتى يصنع لي الجواهرجيُّ قلادةً خاصة بي.
• أتُحبِّين ذلك؟
• وهل هناك من النساء من تكره المجوهرات والقلائد؟
• تكرم عيونك يا أحب الناس، وكيف لا أشتري لك إن عرفتُ أنَّك تُحبين المجوهرات، فمِنَ الغد أُوصي الجواهرجيَّ أبا علي؛ ليصنعَ قلادةً بإذن الله.
• إذًا أريد قلادةً خاصَّةً لا تُشبِه أيَّ قلادة، ولكن لم تقل لي: أين وصلتَ في تجهيز الأمور؛ لنذهبَ إلى سوريا؟
• انتهى أغلبُ العمل، وما هي إلا أشهر قليلة، ونعود إلى سوريا - إن شاء الله.
• يا إلهي، الحمد لله، وأخيرًا سننتهي من غربتنا، ونعود لبلدنا.
وفي الليل وبعد هذا الحوار نام أحمد، وحاولَت زينبُ أنْ تنامَ، ولكن دون فائدة، وهي تفكر في القلادة، وفي ابنها وفي أمريكا وسوريا، فهجمت عليها كلُّ هذه الأفكار، فطار النوم من عينيها، وفي الصباح أراد أحمد أن يخرج بعد تناوُله طعامَ الإفطار، ولكن زينب طلبت منه أن يبقى، فسألها عن السبب، فردت عليه قائلة: غيرت رأيي بالنسبة للقلادة.
• لا تريدينني أنْ أشتريها، أم ماذا؟
• لا بل أريد، ولكن ليس لي، بل لمحمد.
• لمحمد! هل أنت جادة؟ وهل يضعُ الرجلُ قلادة؟!
• ولِمَ لا؟ نصنعها تناسِب الرجال.
• تعرفين أن الذهب محرم على الرجال؟
• أنا لا أقول: إنَّها من الذهب، لتكن من الفضة، ولكن ليصنعها بحيث تكون ثَمينة بمظهرها، وطريقة صناعتها.
• لا أعلم ما الداعي لهذا، فلتكن القلادة لك، ولا تهتمي بمحمد، فسأحضر له أشياءَ كثيرة تُسعده - إن شاء الله.
• يا أحمد، سأحكي لكَ بكلِّ صراحة، البارحة لم أنم مُطلقًا، وأنا أفكِّر بهذه القلادة، وفي النهاية خلصت إلى فكرة تَجعلني أضعُ لمحمد رسالة من خلالها.
• رسالة! وهل يحتاج محمد لرسالة منك وأنت معه؟
• لا أقصد توجيهها له وأنا معه، بل إن حدث وغبت عنه، ولم أعُدْ أقدر على توجيهه وتربيته، تكن الرسالةُ هي التي توجّهه.
• زينب، أجُنِنْتِ أم ماذا؟! أنا لَم أعد أفهم شيئًا، ولكن لأمشي معك إلى النهاية، ما الرسالة؟
• لأصف لك القلادة؛ لتعرفَ من خلالِ الوصف ما الرسالة؟ أحمد، قل لصاحبك أنْ يصنعَ القلادةَ بشكلٍ جَذَّاب، وجميل، ورجولي؛ حتى لا تبدو نِسائِيَّة، ولتكن مُصممة بطريقةٍ تفتح فيها، وتنقسمُ قِسمين مُلتصقين، ولكن ليكن فَتحُها ليس بالسهل، وغير ظاهر جيدًا، فلا يفتحها أيُّ أحد، بل مَن عرفها جيدًا، ورافقته دائمًا.
• وما هذا التعقيد؟ فهل تريدين تهريبَ شيء فيها؟! "قال ذلك مازحًا".
• ليس تعقيدًا، ولكن لا أريد أنْ يفتحَها أحدٌ سوى ابني، وبداخلها لينقشْ عليها وبشكل جميل نقشًا مكتوبًا فيه: "يا محمد أنت مسلم".
• وهل يَحتاج محمد لرسالة منك تُعلِمه أنه مسلم، ثُمَّ - كما أعلم - إنَّ النقشَ يكون بعباراتٍ جميلة مثل: اسم الجلالة، أو "ما شاء الله"، أو غير ذلك من الكلمات المعبرة، فما هذه الكلمة التي اخترتِها لنقشِ القلادة، فليس فيها ما يميزها.
• ومن قال لك: إنِّي أبحث عن التميُّز؟ فأنا لا أريدُ إلاَّ أن أبعثَ لابني هذه الكلمةَ فقط؛ حتى إذا تاه، ونَسِيَ أنَّه مسلم؛ لعل الله يهديه لفتحها، فتذكره بدينه.
• تعلمين - يا زينب - أنِّي بدأت أشكُّ في أنَّ ثقتَكِ بابنك ليس جيدة، وتتوقعين أنه سيَعْصي الله، ويصبح شابًّا غَيْرَ صالح، والعياذ بالله.
• مَعاذَ الله أنْ أشُكَّ فيه، ولكني أودُّ أن أتوكل على الله حَقَّ التوكُّل، وآخذ بالأسبابِ كُلِّها، ومِن ثَمَّ أتركه يواجه الحياةَ؛ حتى لا يسألني اللهُ يومَ القيامة: لِمَ لم تربِّي ابنك؟
• احمدي الله أنَّ لك زوجًا يُحِبُّك، وإلاَّ فكيف لك بزوج يُذهب عَقْلَه، ويطيعُك بكل مخاوفك؟
• بل أنت سيد العُقلاء، ولكن حبك لي جعلك تشعُر بمخاوفي وتُقدِّرها، حتى أصبحت مخاوفي مخاوفك، ثُمَّ ما الضَّيْر إن فعلنا هذا؟ ألاَ تُحِب أن تُهدِي ولدَك أيَّ هدية، فلتكن القلادة هي هديتك له.
• كما تشائين، سأذهب لأبي علي الجواهرجي، وأطلبُ منه ما طلبتِ - إن شاء الله.
• شُكرًا لكَ كثيرًا؛ لأنَّكَ تُعينُنِي على تربيةِ ابننا، وأسألُ اللهَ أنْ يَجعله من الصَّالحين، ويحفظه بحفظِه؛ ليكونَ ناصرًا له.
• اللهم آمين.
صنع الجواهرجي هذه القلادة، وكما أرادت زينب رغم استغراب ذلك الجواهرجي، ولكنَّ أحمدَ فَسَّرَ له مَخاوِفَ زوجته، فحَيَّاه الجواهرجيُّ على مُساعدتِه لزوجته؛ لأنَّ شعورَ الأم صادق، رَغْمَ تأكيده أنَّ هذه القصة ستبقى غريبةً بالنسبة له، وذهب أحمد وأحضرها بعد تجهيزها، ودفع ثَمَنَها المكلف؛ بسبب مواصفاتِها التي اشترطتها زينب.
وفي طريق عودته وَضَع أحمدُ رسالةً لأخيه في البريد؛ ليُخبِرَه كعادته عن تطوُّرات تصفيته لأعماله، وذكر له قصةَ القلادة الغريبة، وحكى له عن مَخاوف زوجته، فكان أحمدُ يتعمَّد إخبارَه بذلك؛ تفاديًا لكلماتِ أخيه، التي يُمكن أن يسمعَها عندما يعرف بهذا، فهكذا يذهب غضبُ أخيه ريثما يعود هو وزوجته، ويكون قد نسيها، فهو لم يكن يُحِبُّ سَمَاعَ ما يكره من أخيه، ولكن أبا خالد أخا أحمد لم يترك ذلك، وبعث له رسالةً عاتَبَه فيها ولامه على هذا الجنون، واتَّهمهما بتضييعِ المال، الذي كَثُر بين يديه، فانزعج أحمدُ من كلامِه، ولكنه تَجاهله؛ لأنه هو وحدَه مَن يشعر بمخاوفِ زوجته، ويصدقها بهذه المخاوف.
سُرَّت زينبُ بالقلادة، وألبستها مُحمَّدًا مُباشرةً، رغم كبرها قليلاً، ولكن ذلك لم يَمنعها من إلباسه إيَّاها، على الرغم من مطالبة أحمد الحثيثة لها؛ لصِغَر الولد، ولكنها كانت ترفض، وتُبَرِّرُ ذلك بقولها: إنَّها لا تستطيعُ ذلك؛ لأنَّها أصبحت تشعُر بأنَّها الأمان للولد، حتى هي نفسها صارت أكثرَ اطمئنانًا بعد هذه القلادة.
أنهى أحمدُ أعمالَه، وباع البيت الذي كان آخر أملاكه في أمريكا، وجاء موعد العَوْدَة إلى الوطن، الذي طالما اشتاقا له، فهما لم يكونا يزورانه إلاَّ مرة كلَّ سنة أو سنتين.
استأجرا سيارةً وركبا فيها مع ابنهما الوحيد الحبيب، وتوجَّها إلى المطار، وفي أحد الأسواق التي يَمُرَّانِ بها في طريقهما خرجت عليهما سيارةٌ من طريقٍ فرعي بسرعة جنونية، كان فيما يظهر أنَّ سائقَها قد شرب الخمرَ حتى السُّكْرِ، وفي ثوانٍ هجمت الأفكار على قلب زينب، وأيقنت أنَّها ميتة هي وزوجها وابنها إن لم تفعل شيئًا، فصار هَمُّها الوحيد هو كيف تنقذ ابنها، وفي ثوانٍ فكرت في أنْ تُغطِّيَ ابنها بجسدها، فأنزلت رأسها، وضَمَّت ولدَها بيديها، فأصبح الولد محجوزًا في حجرها، ويغطيه رأسُها ويداها.
وضُربت السيارة، وانحرفت عن الطَّريق، واصطدمت بالجدار الجانبي للشارع، فتوقفت السيارة؛ نتيجةَ اصطدامها بالحائط، ففتحت زينبُ عينَيْها، ومن غير تفكير فتحتِ البابَ، وألقت بنفسها وولدِها "الذي كاد أن يختنق وهي تضمه بجسدها" على الأرض، وهنا حررته من يديها، بعد أن أيقنت بابتعاد الخطر عنه، فبدأ يبكي ويُحاول البقاء عند أمه، وصار الناس يتراكضون ويَجتمعون حولَ هذا الحادث، فكانت زينب ترمق ابنها بنظراتِها، حتى حِيلَ بينها وبينه في هذا الزحام، والولد لا يقوى على مُجاهدة الناس، وهم يركضون، فلم يَعُدْ يرى أمه وأضاعها.
ولَمَّا أيقنت زينبُ أنَّها ميتة وابنها لم يَعُدْ لَها، قالت وهي مستسلمة لقدر الله: "يا رب، استودَعْتُكَ ابني هذا، فكن حفيظًا عليه"، وأُغْشِيَ عليها، ونُقِلَت إلى المستشفى، ولم تَمضِ ساعات حتى فارقت الحياة، أَمَّا أحمد، فقد حُمِلَ مباشرةً من السيارة جُثَّة هامدة.
كاد محمد ينفجر من البكاء وهو يَمشي بين الناس بخُطُواتٍ يظهر من خلالها أنَّه ما زال في بداية مشيه، ولم يلتفت إليه أحد وهم منشغلون بالحادث وقتلاه، حتى ظهرت أخيرًا امرأةٌ قد تجاوزت الثلاثين من عمرها، فلفت نظرَها هذا الولد، وعَلِمَت أنه ابنُ القتيلين، فحملته وسحبت زوجَها من هذا الزحام، وذهبا بسرعة من غير أن ينتبه إليهما أحد.

يتبع................................. انتظروا ابو فتحي فالحكاية اكثر من رائعة









عرض البوم صور ابو فتحي   رد مع اقتباس
قديم 27-07-2012, 03:02 PM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:
ابو ضياء
اللقب:
مدير عام سابق
الرتبة


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 8796
المشاركات: 959 [+]
بمعدل : 0.22 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو ضياء غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

قصة رائعة 00 متشوقون لمعرفة نهايتها 000









عرض البوم صور ابو ضياء   رد مع اقتباس
قديم 27-07-2012, 06:35 PM   المشاركة رقم: 3
المعلومات
الكاتب:
محمد داوود
اللقب:
مطرود طرد الكلاب الضالة


البيانات
التسجيل: Dec 2011
العضوية: 8261
المشاركات: 0 [+]
بمعدل : 0 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
محمد داوود غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

[mark=#ffffcc]

شكرا سيدي على الطرح الرائع قصة في غاية الجمال[/mark]









عرض البوم صور محمد داوود   رد مع اقتباس
قديم 30-07-2012, 04:30 AM   المشاركة رقم: 4
المعلومات
الكاتب:
علوووش
اللقب:
عضو فخري
الرتبة


البيانات
التسجيل: Apr 2012
العضوية: 9619
المشاركات: 539 [+]
بمعدل : 0.12 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
علوووش غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

قصه جد رائعه اخي في اتظار ........................................ التكمله
الف شكر









عرض البوم صور علوووش   رد مع اقتباس
قديم 30-07-2012, 10:53 AM   المشاركة رقم: 5
المعلومات
الكاتب:
علوووش
اللقب:
عضو فخري
الرتبة


البيانات
التسجيل: Apr 2012
العضوية: 9619
المشاركات: 539 [+]
بمعدل : 0.12 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
علوووش غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

اسمع يا اخ ابو فتحي الظاهر ناوي تصير كاتب روائي ومخرج افلام بس ناوي تتخصص في المسلسلات
بتجيب قصه حلوه وممتعه ومشوقه..............................وانتظرونا (يتبع) يعني اضل حامل الاب توب كل اليوم واستنا..؟
اذا ما بتوفي القصه بدورلك على اشاره حلو ومثيره وحلها مشوق وممتع وصبير انزل كل يوم صوره (مسلسل يعني)
وبعرفك صعب تتركها لا تحلها ..........................وبكتبلك (يتبع):)









عرض البوم صور علوووش   رد مع اقتباس
قديم 30-07-2012, 11:52 PM   المشاركة رقم: 6
المعلومات
الكاتب:
ابو فتحي
اللقب:
مدير عام سابق
الرتبة


البيانات
التسجيل: Jun 2010
العضوية: 2821
المشاركات: 531 [+]
بمعدل : 0.11 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو فتحي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:
إرسال رسالة عبر Skype إلى ابو فتحي

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

كان هذان الزوجان يهوديَّيْن أمريكيَّيْنِ، وليس لديهما أطفالٌ؛ بسببِ عُقْمِ المرأة، وبعد أنِ ابتعدا قليلاً، قال الزوج لزوجته: ما الذي فَعلتِه يا إلين؟ وكيف سرقتِ الولدَ من أبويه؟
• سرقتُ الولد! ما هذه الألفاظ؟ إلى متى سأقول لك: تَعَلَّم انتقاءَ الألفاظ.
• والذي عَمِلْتِه ماذا تُسَمِّينَه إذًا إن لم يكن سرقة.
• أسميه أنِّي أنقذتُ الولَدَ من الضياع، ثم ألستَ يهوديًّا، فلِمَ لا تُجيد فَنَّ انتقاءِ المسميات؟ فكلُّ فعلٍ بإمكانك تسميته باسمٍ حسن، فيصبح حسنًا.
ولكن هذا الولد له أهل، وسيطالبون به.
• ألَمْ تَرَ بعينَيْكَ أنَّ أبويه قد ماتا، وكما تعلم ليس بإمكاننا إنجابُ الأولاد، فلِمَ لا نتخذه ولدًا؟
• أمُّه لم تَمُت، ونقلت إلى المستشفى، ثم كيف تتخذينه ولدًا وهو مسلم؟
• أنا رأيتُ الأمَّ بعيني فموتُها محقَّق، ثُم مَن قال لك: إنَّه مسلم، بل هو يهودي، وأبواه يهودِيَّان، ألاَ ترى صِغَرَه، فكيفما نربيه يكون.
• أنا لستُ مرتاحًا لهذا، فما الذي يجبرنا؛ لنُربِّيَ ولدًا مسلمًا؟
• كن معي فقط وسترتاح، وما رأيك ببنيامين؟
• مَن بنيامين؟
• اسم هذا الولد وأمه إلين.
• يا إلهي! أسَمَّيتِه أيضًا بنيامين، وأمه إلين، إذًا أبوه أفخاي.
• نعم، الآن أصبحتَ تفهمني.
• ولكن ماذا لو بقيت أمُّه على قيدِ الحياة؟
• اذهب إن شئتَ إلى المستشفى مَساءً، واسأل عنها، ولكن ما يضرُّك إن بقيتْ على قيد الحياة، فلن تصلَ إلينا.
• لا، أنا لن أرتاحَ إلاَّ إن تأكدت من موتها، فسأسألُ عنها اليومَ، وعلى كلٍّ - يا إلين - فكِّري في الموضوع، فليس من مصلحتنا أنْ نُربِّي مسلمًا، ويعيش معنا في بيت واحد.
• لا عليكَ أنت، فسيُصبح يهوديًّا أكثر منك.
ذهب أفخاي في المساء؛ ليسألَ عن أمِّ الولد، وفعلاً كان ما يريد، فقد ماتت زينبُ، وهكذا ومن هذا اليوم أصبحَ محمدٌ هو بنيامين، وصار أفخاي وإلين أبويه اللذَيْنِ انتبها للقلادة، ولصبغتها العربية، فعزما على رَمْيِها، ولكنَّ إلين غيَّرت رأيها، وقرَّرت الإبقاءَ عليها؛ لما رأت أنَّها ثَمينة، ولكنَّ أفخاي لم يكن راضيًا بإبقائها؛ لأنَّها تدُلُّ على العرب، وقال: إنَّها سوف تسبِّب لهما المشاكل، إلاَّ أنَّ إلين أصرت على أن يكون تبريرها لبنيامين أنَّها اشترتْها له من عرب كانوا في أمريكا، وهذا ليس مستبعدًا، فيمكن ليهود أنْ يعجبوا بأشياءَ عربية، ويشتروها، ولكنَّ أفخاي لم يقتنع، ولكنه رضخ لزوجته في النهاية.
كانت مخاوفُ زينبَ في مَحلِّها، بل إنَّ ما حدث لابنها أعظمُ مِمَّا كانت تتصوَّر، فمن هذا اليوم أصبحَ محمدٌ المسلمُ هو بنيامين اليهوديَّ، فهو لم يَحِدْ عن طريقه بالمعاصي والشهوات، بل تغير دينه كُلُّه ولم يُفلح أبو خالد عم محمد، الذي جاء إلى أمريكا بعد الحادث؛ ليتسلمَ جُثَّةَ أخيه وزوجته بإيجاده رَغْمَ بَحْثِه طويلاً ومُحاوَلاتِه مع الشرطة لشهور، وفي النهاية وصل إلى قناعة أنَّ ابن أخيه مات مع أبويه، ولكن جثته فقدت لأيِّ سبب.
صار بنيامين الشغل الشاغل لإلين، والذي نسباه إليهما رَسْمِيًّا، فأصبح ابنهما قانونيًّا، ولا أحدَ له الحق فيه سواهما، وصار لا يسمع إلاَّ اللغة الإنجليزية بعد أنْ كان قد بدأ في الكلام، وصار ينطقُ بعضَ الكلمات العربية، وهو مع أبويه الحقيقِيَّيْنِ، ولكنَّ أبويه الجديدين هما أمريكيَّان، ومن الطبيعي أنْ يتعلمَ لغتَهما، وما هي إلا شهور، وأصبح بنيامين قادرًا على لفظِ كل كلمة ينطقها أبواه، ونَسِيَ أيَّ كلمةٍ عربية، وأصبحت لغتُه هي الإنجليزية، وكبر وهو يعلم أنَّ أفخاي وإلين هما أبواه وأنَّ اليهودية هي دينه.
ولَمَّا بلغ الرابعةَ من عمره بدأت إلين تتكلم معه بالعِبْرية؛ ليتعلمَ اللغةَ الخاصَّةَ باليهود، فدخل أفخاي عليها يومًا، فوجدها تتكلم مع ابنها بالعبرية، فسألها عن سِرِّ ذلك، فرَدَّت بكل ثِقَة، حتى إذا عُدْنَا إلى الوطن يكون بنيامين مستعِدًّا للعيش هناك، فقال أفخاي مستغربًا: وأيَّ وطن تعنين؟! فأجابته باستغراب أكبر: وكيف أي وطن، هل نسيت أنَّ وطننا هو "إسرائيل"؟
• وهل تظنين أنَّك عائدة إلى الوطن.
• ولِمَ لا أعود؟
• هل تصدقين أنَّ العربَ سيتركوننا نعيشُ بأمانٍ في وطننا؟ وهل تؤمنين بأنَّ هذه الدولة ستبقى؟
• ما هذا الغباء يا أفخاي؟ ولِمَ لا أسألك أنا: هل تظن أنَّ العربَ قادرون على مواجهة "إسرائيل" وقُوتِها؟ وهل تشكُّ للحظةٍ أن "دولة إسرائيل" لن تبقى؟ ثم لِمَ لا تسأل نفسك: لماذا ترك العرب "إسرائيل" أربعَ سنوات، ولَمْ يسقطوها؟ ولذا فمن تركَها أربعَ سنين، سيتركها عشراتِ السنين، ورُبَّما مئات السنين؟
• أنا أشكُّ في ذلك، فالعربُ يُحاولون إسقاطَها وسيسقطونها.
• عندها أكون أنا وأنت في عدادِ الموتى، ولا يَهُمُّنا ما يَحدث وقتَها، سواء أسقطوها أم لا، والمهم الآن أنَّ من يعيش فيها، فسينعم أكبر النعيم، وهذا ما يهمني.
• إذًا فحب الوطن ليس هدفك، بل هدفك هو ما سينعمه عليك ذلك الوطن.
• ما هذا الذي أسمع! وهل أنت تهتم بهذا الوطن؟
• أنا لم أقل مثلك: إنِّي أريد الذَّهاب إلى الوطن.
• ولكن أنا أريد، ولكن ليس الآن، بل عندما يطمئن قلبي أنَّها أصبحت دولةً حقيقية.
استمرت إلين في تعليم ابنها اللغةَ العبرية حتى أتقنها، وصارت له لغة ثانية مع لغته الإنجليزية الأصلية؛ كونه أمريكيًّا، ثم وضعته في مدرسةٍ يهودية؛ ليتعلمَ العلومَ عامَّة، واليهودية خاصَّة، رغم عدم تديُّنها، ولكنَّها أرادت أن تَجعلَه يعرف الكثيرَ عن اليهودية؛ حَتَّى لا يفكر يومًا ما في دينه الأصلي؛ لأنَّ خوفَها من ذلك لم ينقطع، رغم تربيتِها له منذ صِغَره، وهذا الخوف عَزَّزه الكثير من الأحداث، التي كانت تَحدث معها، ومثال ذلك: لَمَّا خرجت هي وابنُها يومًا يتفسحان، فمرت بجانبِ مسجد، فتوقَّف بنيامين، ونَظَرَ مَلِيًّا، ثم سأل أمَّه: ما هذا الشيء العالي؟ فغضبت إلين بينَها وبين نفسِها من سؤاله، وتَمْتمت بصوتٍ مُنخفض: يا لك من ولدٍ، لم يُثِر انتباهَك إلاَّ هذا؟ ولكنه سرعان ما عاد؛ ليسألَها، فجذبها، وقال: أمي، أمي، ما هذا الشيء العالي؟ وما هذا البناء؟
• هذه مئذنة، وهذا مسجد.
• وماذا تعني مئذنة؟ وماذا يعني مسجد؟
• هذا للمسلمين المجرمين يتعبَّدون فيه، هؤلاء الذين سرقوا وَطَنَنا "إسرائيل"، ويُقاتلوننا؛ لأَنَّنا نريد حَقَّنا، ولكن - يا بُنَيَّ - لا تَخفْ، سنعود إلى وطننا؛ لأَنَّنا استرجعناه من هؤلاء الخبثاء.
• يعني هم أناس غيرُ جيدين.
• نعم، بالطبع هم ليسوا جيدين ومجرمين أيضًا، أنا أكره المسلمين، وعليك أن تكرههم.
فبدأ يُردِّد وَراءَها دون أن يَعِي ما يقول ويقلدها: أنا أكره المسلمين، أنا أكره المسلمين، وهما على هذه الحال خرج رجلٌ من المسجد، فصاح الولد خائفًا: أمي، هل هذا مسلم؟ فرَدَّت الأم: أَنْ نعم، فبدأ بنيامين يصيحُ قائلاً: أنا أكرهك، أنا أكره المسلمين، فما لبثت الأمُّ أن أسكتتْه، وقالت: لا، يا بني، لا تقل ذلك، فنحن نكرههم، ولكن لا نُعْلِن ذلك؛ حتى لا يقول الناس: إنَّنا نكره غيرَنا، ونؤذيهم، فوافقها بنيامين دون اعتراض؛ لصِغَر سِنِّه.
ولكنَّ هذا الحادث لفت نظر إلين لِأَن تُدخل ابنَها الصغيرَ لمعبدٍ يهودي؛ حتى لا يسأل نفسَه لا شعوريًّا: إنَّ هذا المسجدَ للمسلمين، فأين ما نعبدُ فيه نَحن؟ ولولا هذا الحادثُ، لَمَا فكَّرَتْ في إدخاله مَعْبدًا، فهي وإن كانت تريد أنْ تعلمه اليهودية، فهي أيضًا لا تريده متدينًا، بل ترغب في أن يكونَ عَلْمَانِيًّا؛ حتى لا يتعبها في تدينه، فهي ككُلِّ يهودية تُحِب أن تكون حرة.
ولَمَّا دخلا بدأت تشرحُ له عن المعبد، وكيف هم يعبدون، فسألها: هل هذا مثل المسجد، فرَدَّت عليه بغضبٍ ظهر عليها، وانتبه له بنيامين: لا، بل هو أفضل من المسجد، ثُمَّ ما خَصَّك أنت بالمسجد، هو ليس لنا، فعليك نسيانه، وعدم التفكير فيه، فقال لها ببراءة الطفل: ولكنَّ المسجدَ أجملُ، فزاد ذلك من انزعاجِها، وقالت: وهل تُعجَب بشيء لأعدائنا، وترى أنَّه جميل، مع أنَّهم هم مَن يقتلوننا في "إسرائيل"، ويريدون أنْ نَخرُج من وطنِنا، فارتبك الولد، وقال: لا، لا يا أمي، أنا أحب المعبد، وأكره المسجدَ والمسلمين.
فابتسمت الأمُّ، وقالت: نعم، هكذا أريدُك، فشعر الطفلُ بالأمان لرضا أمِّه عليه، بعد أن كان قد خاف من انزعاجِها، وهكذا تشبَّع بنيامين باليهودية، وكَرِه المسلمين؛ لإرضاء أمِّه فقط، واجتناب رُؤيتها غاضبة، وفي سِنِّ العاشرة لبنيامين شاهد ولأولِ مرة في حياته امرأةً مُحَجَّبة، حين كانت تَجلِس على مِقْعَدٍ في حديقةٍ كان هو وأمُّه يَجلسان فيها عادةً، فجاء مسرعًا إلى أمه التي كانت تبعُد عن تلك المرأة، وناداها بلهفة: أمي تعالي، تعالي؛ لأُرِيَك ماذا رأيت؟ فجاءت إلين مُتلهفة؛ لترى ما الذي أثار انتباهَ ابنِها المُدلَّل؟ فإذا بامرأةٍ مُحجبة، فصُعِقَت لَمَّا سألَها عنها: ومَن هذه؟ ولماذا تَلْبَس هكذا؟ فلم ترد عليه، وبدأت تُفكِّر في نفسِها، أيُعْقَل أنَّه يتذكر أمَّه، ويتذكر حجابَها، ولكنها رأت أنَّ ذلك مستحيل، ولكنَّها سرعان ما انتبهت أنَّ عليها إجابتَه بشكل طبيعي، فقالت: وما الذي لفت نظرَك بهذه المرأة الحمقاء، فهي مسلمة وهم يَلْبَسون ذلك الغطاء على الرأس؛ بسب تَخلُّفهم؟ ثُم ألَم نتفقْ أنَّنا نكره المسلمين، وليس لنا علاقة بهم.
• مسلمة! طبعًا أكرهُهم، ولكني أول مَرَّة أرى هذا المنظر، فهذه المرأة تُشْبِه المرأةَ التي أراها في المنام، فهي تُغطِّي رأسَها، ولكن لا أرى وجْهَها جيدًا.
فدُهِشَتِ الأمُّ من كلامِه وقالت: تراها في المنام! آه، آه، هذه بالتأكيد المرأةُ المسلمة التي رعبتْكَ وأخافتك وأنت صغير، فرُبَّما أنت ما زِلْتَ تذكُرها، فهذا الذي تراه كابوسٌ، فلا تَهتم به.
• كابوس! ولكني أستيقظ مرتاحًا وسعيدًا عندما أراها.
• لا، لا، هذا بالتأكيد كابوس، وأنت يتهَيَّأ لك أنَّك مرتاح.
• نعم، نعم، رُبَّما يكون كابوسًا، فأنا لا أحب المسلمين.
ولكن هذا المنام شغَلَ بالَ إلين، وجاءت وقَصَّت الخبرَ على زوجِها أفخاي، فقال لها مُفَسِّرًا: هذه ربَّما أمه، فهو ما زال مُحتفظًا بصُورَتِها في عقله الباطن؛ ولذلك تأتيه في مَنامِه، ولكنَّ هذا الكلام أزعج إلين، وأخافها بزيادة، فقالت له: كلمتك لتُزيل خوفي، فقلت هذا التفسير؛ ليرعبَني أكثرَ، فأراد أفخاي أنْ يزيلَ ما سَبَّبه لإلين، فقال لها: ما هذه الخرافات؟ فأمُّه ماتت من سنين، ولم يَعُدْ لَها وجودٌ، وهو مجرد منام، فلا تضخمي الأمرَ، فردت: أتمنى ذلك، ثُمَّ نظر أفخاي إلى حديقة المنزل من النافذة التي كان يَجلس بجانبها، فوجد بنيامين يلعبُ مع البنات، ثم خاطب إلين مُحاولاً أنْ يلعبَ دَوْر الأب الذي لا يشعر به نهائيًّا تُجاه بنيامين، ولكنه وجد نفسَه مُضطرًّا لأن يلعبه، فقال: لِمَ تركزي على الإناث في صُحبة بنيامين؟
• لسببٍ واحد وهو أنَّ المسلمين أكثرُ ما يُبغضون هو عَلاقة الشابِّ بالفتاة، وأنا أريد لبنيامين أنْ يكونَ يهوديًّا خالصًا لا يَمُتُّ للإسلام بصلة.
• ولكنَّ هذا ربَّما يؤثر على شخصية بنيامين، وتصبح صفاتُه شبيهةً بصفات البنات.
• لستُ غبِيَّة حتى لا أعرف كيف أربي ابني، ولن أضيعَه؛ لأنه أغلى إنسان على قلبي، وانتبه لِمَا تقول جيدًا، فالأصحابُ الذُّكور هم في حياة بنيامين في كُلِّ نشاطاتِه: في النوادي، والمدرسة، وفي كُلِّ مكان، ولكني أريد أن تكونَ عَلاقته بالبنات أيضًا مميزة.
• أرجو أن لا تضيعي الولدَ؛ بسبب بُغضِك لأصلِه ودينه.
• دينه! دينه هو اليهوديَّة، ولا دينَ له سواه.
بقيت القلادةُ مع بنيامين كُلَّ هذه السنين، ولم تفارقْه قطُّ، ولَمَّا كان يسأل عن هذه القلادة، وقِصَّتِها كانت الأمُّ ترد عليه بأنَّها هي مَنِ اشترتْها؛ لِحُبِّها له، وكان بنيامين يُحِبُّ هذه القلادةَ، ولا يرضى أن يفارِقَها؛ لأنَّها تُمثل له الأمان والطمأنينة دون أن يدري سببَ ذلك.
لَمَّا صار بنيامين في سن السابعةَ عَشْرَةَ قَرَّرت العائلةُ أن تذهبَ إلى وطنها المزعوم "إسرائيل"، ونقل أفخاي أعمالَه إلى القدس الغربِية بعد رَفْضِه الذَّهاب، وتأجيله لهذا السفر سنينَ عِدَّة، ولَمَّا كانت إلين تسألُه عن السببِ يقدم لها أعذارًا لا تقنعُها، وكانت موافقته بشكل مفاجئ، الأمرُ الذي أثار استغرابَ إلين، ولكنَّها لَم تعرفِ السرَّ، رغم إصرارها على معرفته، وكان اختيارهم للقدس الغربية غَيْرَ مُرْضٍ لإلين؛ لأنَّها كانت تَحلُم بأن تسكن تل أبيب، ولكنَّ أفخاي بَرَّر ذلك بأنَّه لم يستطِعْ أن ينتقلَ إلى تل أبيب، ولكن هذا التبرير لم يكن يقنع إلين، ولكنَّها رَضِيَت في النهاية، فبالنسبة لها مُجرد موافقته على الذَّهاب إلى "إسرائيل" كان كافيًا لها، خاصَّة أنه وَعَدها أنَّه سيعمل ما في جهده؛ للانتقال إلى تل أبيب.
انتقلت العائلةُ إلى القدس عام 1965، ولكنَّ بنيامين لم يكن سعيدًا كثيرًا؛ لأنَّه سيترك بلدَه الأصلي "أمريكا"، الذي تربَّى فيه 17 سنة، ولكنه في النهاية رَضِيَ أن يدفعَ الثمن مُقابلَ أن يعودَ إلى وطنه، الذي كانت تحدثه عنه أمُّه إلين، ولكن ما أثار استغرابَ بنيامين، حتى أمه وأبيه - هو أنَّه أحَبَّ القدسَ، وشَعَر فيها باطمئنانٍ غريب، الأمر الذي فسَّرته له أمُّه بأنَّه لم يشعُر بهذا الاطمئنان إلاَّ لأنَّ القدسَ هي وطنه الأصلي، وكأنَّها تُحاول أن تكذبَ على نفسِها وتنسى أن بنيامين هو من أصلٍ مسلمٍ، والقدس هي وطنه لا وطنها.
جاء الوقت الذي وصل فيه بنيامين إلى الجامعة، وأراد أن يدرسَ الصحافة، الأمر الذي أزعجَ والديه اللذين لم يكونا يُحِبَّانِ هذا الفرع، فقد كانت أمه تتمنى أنْ يُصبِحَ طبيبًا جَرَّاحًا؛ لأنها كانت تعتقد أن هذا العمل هو أرقى الأعمال، ولذلك كانت تُفضِّله لابنها عن غيره، ولكن هذا الفرع كان آخرَ ما يُفكِّر فيه بنيامين، فأدَّى هذا الاختلاف إلى وُقوع مُشاجرات بين الابن وأهله.
ودام ذلك أيامًا فلا الابن يقتنع برأيِ أهله، ولا الأهلُ مقتنعين برغبةِ بنيامين، فشعر بنيامين بضيقٍ كبير؛ بسبب هذا الخلاف، فمَعَ أنَّه لا يُحِب أن يفرضَ أحدٌ عليه رأيَه، إلا أنه لم يكن يحب أن يزعجَ والديه، فأَنْ يُصْبِحَ مراسلاً كان ذلك من أكبرِ أحلامه، فهو يُحِبُّ الانتقالَ من مكان إلى آخر، وينقل الأخبار ويشاهدها بعينه، ويُعطي رأيَه بها؛ لأنَّه لا يُحِب أن تنقلَ الأخبار له فقط دون أن يكونَ شاهدًا عليها، فكان مغرمًا بمعرفة الحقيقة، والصَّحافة والعمل التلفزيوني هو أقربُ طريق للوصول إلى هدفه.
وبعد كل هذا الضيق، وبعد تفكير كبير بهذا الأمر، وخوف من أنْ ينتصرَ رأيُ والديه بأيِّ طريقة - نام فرأى في منامِه تلك المرأةَ، التي تأتيه دومًا، فاقتربت منه وهي تبتسمُ فمسحت على رأسِه وهنا فتح بنيامين عينيه، وإذا هو مُبتسم مُنشرح الصدر، وكأنَّ هذه المرأة جاءت تُبشِّره، وتقول له: لا تَحزن، ستدرس ما ترغب في دراسته، وبعد زمنٍ مِنَ الصَّمْتِ وهو يفكر في هذا المنام، كَلَّم نفسَه متسائلاً: يا من ترى، مَن هذه المرأة؟ ولِمَ يُسَرُّ قلبي كلما أراها؟ ولِمَ تَلْبَسُ لِباسَ المسلمين؟ ولكنَّه لَمْ يَجِد لأسئلته جوابًا؛ لذلك تَرَك هذه التساؤلات مُكتفيًا بما شعر به من انشراح الصدر.
دخل بنيامين في هذا اليوم على أُمِّه وأبيه، وأخبرهما بقَرارِه النهائي، وعَزْمِه على دراسة الصَّحافة، وأنَّه من المستحيل عليه دراسة الطب؛ لأنَّه أبعد ما يكون عن رغبته، فردَّت أمُّه والانزعاجُ بادٍ على وجهها: ولكن - يا بني - ما تفيدُك الصَّحافة، ألاَ تعلم أنَّ الجراحة هي أرقى العلوم، ويُمكن أن تذهبَ إلى أمريكا، وتدرس هناك وتُصبح من كبارِ الجَرَّاحين، وهنا تكلم أفخاي قائلاً: ولكن ما يُعجبك في الصَّحافة، فنهايتها إمَّا كاتب في جريدة مَغمورة، أو مذيع في برنامج غنائي فاشل، فرد بنيامين وقد غَضِبَ من سُخرية أبيه: ومَن قال لك: إنَّ هذا هو مصيري؟ ولِمَ لا أصبح صحفيًّا كبيرًا ومُراسلاً تلفزيونِيًّا ناجحًا؟ وما الذي يمنعني؟
أفخاي: نحن نريدُك أن تدرسَ عِلْمًا ينفعك ماديًّا، ويرفعك اجتماعيًّا.

بنيامين: ولكن سعادتي في الصَّحافة، وفي الصَّحافة فقط، ولن أغيِّر رأيي، فقالت إلين مستسلمةً: إذًا افعل ما تريد، وتَحَمَّلْ نتائجَ اختيارك، فرَدَّ بنيامين عليها بكل ثقة: نعم، سأفعل ما أريد، وسأتحمل نتائجَ اختياري.
دخل بنيامين الجامعةَ، وبدأ بدراسةِ الصَّحافة، وفي أولِ يوم مِن أيَّامه الدراسيَّة؛ حيث كان يستعدُّ للذهاب إلى جامعته، اغتسلَ ولبس ثيابه، وجَهَّز كتبَه، ولَمَّا طلب قلادتَه المرافقة له باستمرار، التي لم يكن يَخلعها إلاَّ عند الاغتسال؛ لخوفِه عليها، لكنَّه لَم يَجدها، فبحث عنها وبحث، ولكن دون فائدة، وقلب السريرَ، والخزانة، والثِّياب رأسًا على عَقِب، ولكن دون نتيجة، فجُنَّ جنونه، فبدأ يصرخ ويعلو صوتُه، فدخلت إلين عليه فزعةً، وسألته عما دهاه.
• القلادة، القلادة، أين اختفت؟ أمي أرجوك ابحثي عنها.
• القلادة! ولكن أين ذهبت؟
• لا أدري، وضعتها هنا على الطاولة، ودخلت؛ لأغتسل، ولَمَّا عُدت لم أجدها.
• بالتأكيد هنا أو هناك، أين ستذهب لأحاول معك؛ لعلي أجدها.
بَحثَا كثيرًا، ولكن لا فائدة، فنظرت إلين لابنها، فذُعِرَت من منظره، وهو يصول ويَجول في الغرفة، وكأنَّه أمٌّ أضاعت ابنَها، فخافت عليه من هذا المنظر، فقالت مُحاولة أن تُهدئه: الآن اذهبْ إلى جامعتك، وسأبحث لك عنها، وأحتفظُ بها حتى ترجِعَ، فنظر لها متعجِّبًا، وكأنَّها قالت كلامًا تسبه فيه أو تُهينه، فرد عليها قائلاً: ماذا تقولين يا أُمَّاه، أذهبُ إلى الجامعة من غير قلادتي؟ أيُعْقَل هذا؟! ألاَ تعلمين - يا أمي - أنَّ هذا من المستحيل أنْ يَحدُث، ولو فقدت حياتي.
هنا استشاطت إلين غضبًا، وثارت وصرخت في وجهه: أتفقدُ حياتَك من أجل هذه القلادة التَّعيسة؟! وما هذه القلادة حتى تضحي بنفسِك من أجلها؟ ألستَ يَهودِيًّا، واليهوديُّ لا يضحي بحياته من أجل أيِّ شيء، فكيف بهذه القلادة التي لا تساوي شيئًا؟! فنزل هذا الكلام على قلب بنيامين مثل الصَّاعقة، وكيف تصفُ هذه القلادة، وهي مَنِ اشترتْها له بهذه الصِّفات، فقال معلقًا على كلامها: كيف تتحدثين عن قلادتي بهذه الصُّورة، وأنت مَن جَلَبَها لي، وأنا أحبها؛ لأنَّها منك؟
فشعرت الأم بأنَّها أخطأت، ووقعت في فخٍّ عظيم؛ بسبب غَضَبِها غير العقلي، وعدم حكمتها فأرادت أنْ تُصحِّحَ ما أفسدته، فقالت بارتباك: صحيح أنني اشتريتُها، وأشعر بسعادة؛ لأنَّك تُحبها، ولكنها ليست أغلى منك، فأنا غضبت من كلامك، وأنك ستضحي بنفسك من أجل قلادة عادية، فقاطعها قائلاً: ليست قلادة عادية، فهي رَفيقتي منذ أنْ أدركت الحياة، إن لم أجدْها لن أخرجَ من البيت.
لما اسْتَيْئَسَ بنيامين من إيجادِ القلادة، جلس في غُرفته حزينًا مُستسلمًا، وعزف عن الذَّهاب إلى الجامعة، وبدأ يُسلِّي نفسه بأمورٍ مُختلفة، ففتح حقيبته التي يَضع فيها كتبه الجامعية؛ ليخرج كتابًا ليطلعَ على منهاج جامعته الجديدة؛ لعله ينسى حزنه على قلادته، فإذا بالقلادةِ قد وضعَها في الحقيبة؛ خشيةَ نسيانِها، ولكنَّه نَسِيَ ذلك، فصرخ بأعلى صوتِه وكأنَّه طفل وجد لعبته الضائعة: وجدتُ القلادة، وجدتها، فكانت سعادته كبيرة؛ لأنه وجدَها، ولكنه في الوقت نفسه حزن؛ لأنه علم أنَّ القلادةَ لا تُمثل عند أمه أيَّ قيمة، وأنه وحدَه من يُحبها.
ظلَّت إلين غاضبةً من هذا الموقف طوالَ اليوم، حتى إنَّها قصت الحكايةَ على أفخاي، وقالت له: إنَّها أصبحت تكره هذه القلادةَ، وتشعر أنَّها شؤم على العائلة من فرط مَحبَّة بنيامين لها، ثم قالت: إنِّي بدأتُ أفكر مثل النساء الجاهلات أنَّه رُبَّما هناك أشباح يسيطرون على هذه القلادة، فضَحِكَ أفخاي من كلامها، وقال لها: ما هذا الهراء، الذي تتحدثين عنه؟! هي مُجرد قلادة، وتَعَوَّد عليها، وكما قلتِ: إنَّه يُحِبُّها لأنَّها منك، فهذا يدفعك لأَنْ تسعدي، وليس لأن تخافي، وعلى كُلٍّ أتذكُرين ماذا كان رأيي عندما وجدناه؟ فكم قلتُ لك: لِنَرْمِها! ولكن طمعت فيها، وبثمنها، وفي النِّهاية بقيت مع بنيامين، فردت إلين بِأَسًى: يا ليتني رميتها وارتحت.
يتبع.......................... انتظروا ابو فتحي مع كامل المتعة والاثارة









عرض البوم صور ابو فتحي   رد مع اقتباس
قديم 31-07-2012, 01:26 PM   المشاركة رقم: 7
المعلومات
الكاتب:
علوووش
اللقب:
عضو فخري
الرتبة


البيانات
التسجيل: Apr 2012
العضوية: 9619
المشاركات: 539 [+]
بمعدل : 0.12 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
علوووش غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

مشكور اخي ابو فتحي قصه ممتعه جدا ومشوقه اكثر
هذه قصه تحوي بداخلها قصص وخيال لا حدود له
يعطيك الف عافيه









عرض البوم صور علوووش   رد مع اقتباس
قديم 02-08-2012, 05:24 PM   المشاركة رقم: 8
المعلومات
الكاتب:
علوووش
اللقب:
عضو فخري
الرتبة


البيانات
التسجيل: Apr 2012
العضوية: 9619
المشاركات: 539 [+]
بمعدل : 0.12 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
علوووش غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

ها وبعدين ؟؟
هي طواله معك الحكايه..............يتبع
ترى يا ابو فتحي......................اسمع
اذا ما بتعجل في نسخ...............وارفع
بحضرلك رصد اعمى وما.......... بيسمع
لا شيخ بينفع ولا.......................مدفع
ولا بخشيش قد ما......................دفع
شايفه جبل وانت امامه............:khafji(53):











عرض البوم صور علوووش   رد مع اقتباس
قديم 02-08-2012, 06:37 PM   المشاركة رقم: 9
المعلومات
الكاتب:
ابو ضياء
اللقب:
مدير عام سابق
الرتبة


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 8796
المشاركات: 959 [+]
بمعدل : 0.22 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو ضياء غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

وننتظر باقي القصة 00 بالفعل مشوقة









عرض البوم صور ابو ضياء   رد مع اقتباس
قديم 02-08-2012, 07:36 PM   المشاركة رقم: 10
المعلومات
الكاتب:
علوووش
اللقب:
عضو فخري
الرتبة


البيانات
التسجيل: Apr 2012
العضوية: 9619
المشاركات: 539 [+]
بمعدل : 0.12 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
علوووش غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

شايف يا اخوي ابو صياء
بلديتنا اش بسوي مسلسل تركي
خليني ساكت ما ودي احكي :42:









عرض البوم صور علوووش   رد مع اقتباس
قديم 07-08-2012, 09:23 AM   المشاركة رقم: 11
المعلومات
الكاتب:
ابو فتحي
اللقب:
مدير عام سابق
الرتبة


البيانات
التسجيل: Jun 2010
العضوية: 2821
المشاركات: 531 [+]
بمعدل : 0.11 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو فتحي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:
إرسال رسالة عبر Skype إلى ابو فتحي

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

اسف شباب النت عندي كان مفصول









عرض البوم صور ابو فتحي   رد مع اقتباس
قديم 07-08-2012, 11:02 AM   المشاركة رقم: 12
المعلومات
الكاتب:
عاشق البرية
اللقب:
عضو
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية عاشق البرية


البيانات
التسجيل: May 2012
العضوية: 10104
المشاركات: 739 [+]
بمعدل : 0.17 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
عاشق البرية غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

جميل جدا









توقيع : عاشق البرية

[IMG][/IMG]

عرض البوم صور عاشق البرية   رد مع اقتباس
قديم 07-08-2012, 06:44 PM   المشاركة رقم: 13
المعلومات
الكاتب:
ابو فتحي
اللقب:
مدير عام سابق
الرتبة


البيانات
التسجيل: Jun 2010
العضوية: 2821
المشاركات: 531 [+]
بمعدل : 0.11 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو فتحي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:
إرسال رسالة عبر Skype إلى ابو فتحي

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

لُّ هذه الأحداث أثَّرت في بنيامين، وبلورت شخصيته، ورَسَمَتْها بحسب تأثُّره بها، فكانت شخصيته تَتَّسِم بالحذر، وعدم الثقة بمن حوله، فكلُّهم يعيشون، ويتعاملون مع بعضِهم في إطار مَصلحةٍ مُشتركة، وهذا كان واضحًا أكثرَ في علاقاته في صُحبة الجامعة، فقد اختار أصحابَه بحيث يستفيد من كلِّ واحد منهم، ويبتعد عن أي علاقة لا تُقدِّم له منفعة، وهكذا بدأ بالتعرُّف على أصحابٍ جُدُد شباب وبنات، وعاش كأيِّ يهودي لا يَمنعه دينٌ ولا عُرْف في علاقاتِه مع الشباب والبنات، مثل: الخمر، والسهر، والرحلات.
ولكنَّه كان يتميَّز عن أقرانه اليهود بشيء واحد، وهو أنَّه كان لا يُمارس العلاقاتِ غير الشرعية مع البنات، وهذا ما كان يُدْهِش كلَّ من حوله، ولا يعرفون سببَ ذلك، حتى بنيامين لم يكن يدري لماذا هو يُبغِض هذه العلاقات، رغم شرعيتها في بيئته اليهودية، بل ضرورتها أيضًا بالنسبة لهم، وكان هذا يُزعِج أبويه، فهُما يريدان كسرَ التشابُه بينه وبين أبناء المسلمين، الذين ينتمي إليهم أصلاً قبل أن يأخُذاه ويُهوِّداه.
فكانا يسألانِه عن سِرِّ ذلك، ويَطلبان منه أنْ يكونَ كباقي الشباب، حتى لا يتهمونه أنَّه مُختلٌّ عَقليًّا، أو يصبح منبوذًا من أقرانه، ولكنه كان في كلِّ مرة يرد الردَّ نفسه، وهو أنه لم يقتنع إلى الآن بهذا الأمر، وقناعته تفرضُ عليه أن لا يكونَ هذا الأمرُ إلا بعد الزَّواج؛ لأنه وبحسب قناعته يرى ذلك فعلاً حيوانِيًّا، ما دام بلا قيدٍ، ولكن ذلك لم يكُن يُرضي الأبوين؛ لأنَّهما يرغبان في أنْ يكون يهوديًّا بجميع أفعالِه.
فكانا يُصِرَّان عليه بأنْ يُغيِّر رأيه، ولو بصديقة واحدة، فيرد عليهما: أَنْ لا أحدَ له الحقُّ بتسييره، وهو حُرٌّ بأفعاله، ولا يعمل إلاَّ ما يقتنع به، وبَقِيَ على قناعته رغم ما كان يراه من حوادثَ خبيثة، حتى من أبويه، بل هذا ما زاد قناعته برأيِه، فقد شاهد أباه مَرَّة مع صديقته في وضعٍ غير أخلاقي، الأمر الذي اضطر الأب أن يُحاول بكل استطاعته مُتذلِّلاً لابنه؛ حتى لا يُخبر أمَّه، التي هي أيضًا رآها في المنظر نفسه مع صديقٍ لها، والتي فعلت ما فعله أفخاي من التذلُّلِ؛ حتى لا يخبر أباه، ولَمَّا لامهما على فعلهما، كان ردُّهما متشابهًا، وقالا: إنَّ هذه حريتهما، وهما يفعلانِ ما يسبب لهما السَّعادة.
ولما ذكر لهما ظَنَّه بأنَّهما يُحِبَّان بعضهما؛ لأنَّه يراهما يتحدثان، فكان الردُّ متشابِهًا أيضًا: إنَّ هذه هي الحياة، تصالِح وتُحارِب وتُقِيم العلاقاتِ فقط؛ للمصلحة، ومصلحتهما أنْ يَبْقيا مع بعضهما؛ لكثرة مالِ إلين، ولضرورةِ عمل أفخاي بهذا المال، فكانت تلك الأعمالُ تزيد من قناعة بنيامين؛ حتى لا يضطر يومًا لأن يتذلل أمامَ ابنِه، وما زاد قناعته أيضًا هو عَلاقته بسارة صديقته في الجامعة، فهو كيهودي كان يَختارُ أصحابَه على حسب المصلحة المتبادلة، فلا صديقَ لأجل الصداقة، بل لأجلِ المنفعة.
فكانت سارة تُفيد المجموعةَ التي ينتمي إليها بنيامين باختيار السَّهرات الجميلة، والفسح، وتستقبلهم أيضًا في بيتها؛ حيث أغلب سهراتِهم عندها، ولكن كل شيء بثَمنِه، فطبعًا لا يمكن لها كيهودية أن تستقبلَهم في بيتها، وتُجهِّز السهرات، وتقدمها بأفضلِ حال إلاَّ بثمن، فكانت هي مَن تُشرِف على السهرات، وتؤمِّن جميعَ طلباتِها التي يَجلبها لها (أفيغدور) الشاب الآخر في المجموعة، وكانت سارة تُحِب الرقصَ والغناء، ولا تهتم بالسياسة، ولا تسمح لهم بالحديث عنها.
وكانت تُخبرهم دائمًا أنَّ دراستها للصَّحافة لن تستفيدَ منها إلاَّ ببرامج ترفيهِيَّة، ورقص، وغناء، فكانت شخصيتها وتفكيرها سطحِيَّيْن، ولم يصاحبها بنيامين إلاَّ لأنها تُسعِده في سهراتِه، فهي لترفيهه فقط، والذي أثَّر في بنيامين في عَلاقته بها هو قِصَّتُها، فهي فتاة مُنتسبة لأُمِّها فقط، وليس لها أب؛ لأنَّها وُلِدَت من عَلاقة غير شرعية.
فوالدها مُتزوِّج، ولا يقدر أنْ ينسبَها له، فكانت تشعُر بأنَّها ضحية هذه العلاقة غير الشريفة، وتنقم على مُجتمعها، الذي نَبَذَها، لا بسببها، بل بسبب غلطة والديها، وعدم اكتراثهما بنتيجة خَطَئِهما، فكانت سارة بالنسبة لبنيامين رمزًا للظُّلم في المجتمع اليهودي؛ بسبب علاقاتِه غير المحسوبة، فكانت هذه القصةُ دافعًا أكبرَ لبنيامين للابتعاد عن أيِّ علاقةٍ غير شرعية، وكان لمعرفته بقِصَّة سارة تأثيرٌ يغيِّر نظرتَه لها، وإشفاقه عليها، بعد أن كان ينظر إليها على أنَّها فتاة سطحية غير مبالية، فكان كثيرًا ما يزورها، ويتكلم معها، بعد أنْ عَرَف طيبتَها، واستشعر شعورَها بالظلم.
فكان بنيامين كلما كبر علم مجتمعه أكثر، وتَعَلَّم أنَّ الحياةَ تقوم على المصالح المتبادلة، والعلاقات تُبْنَى وتكبر وتصغر بحسب المنفعة والضرر؛ ولذلك تَعَلَّم أنْ يكونَ حَذِرًا في كل تصرفاته، وأن لا ينساقَ لعواطِفِه أبدًا، بل عليه أن يكونَ حِيادِيًّا مع كُلِّ الناس، حتى مع أبويه اللذين هما أيضًا علاقتهما تقوم على المصلحة.
وهكذا كانت علاقته مع سارة ومع باقي أصحابه، رَغْمَ تأثُّره بها أحيانًا، وهكذا الحال مع (أفيغدور)، الذي كان يؤمِّن لهم الطلبات، كان شابًّا جَشِعًا يُحِبُّ نفسَه ويُذِلُّها في سبيل المال، وكانت زجاجة خمر تكفي لأن يُسخِّر نفسَه لخدمة بنيامين، وكان بنيامين يُسَرُّ في تعامُله مع (أفيغدور)؛ لأنَّه كان يَعُدُّه خادمًا عنده، فيكفي أن يَعِدَه بزجاجةِ خمر، أو يدعوه على العشاء؛ حتى يصبحَ طَوْعَ أمرِه، فدائمًا ما كان يَحوم حول بنيامين في سَهراتِه يُشرف على خدمته طوالَ السهرة في سبيل أي عطاء من بنيامين.
حتى إنَّه أدهش يومًا مَجموعة الشباب عندما طلب بنيامين منه أنْ يُنظِّفَ له حذاءَه، الذي اتسخ في رحلة من الرحلات، فلم يجد (أفيغدور) حرجًا من فعلِ ذلك، ونَظَّف الحذاءَ؛ من أجل زجاجة خمر، فكان نهج بنيامين هكذا في انتقاءِ أصحابِه؛ ليستفيد منهم فقط، وبطبيعة الحال هم سيستفيدون منه أيضًا، فهذه عادة اليهودي، لا يصاحب إلا لمصلحة.
أمَّا أرئيل، فهو شاب مُتفوق يهمُّه أن يكون مع الأوائل دائمًا، ويُحِبُّ الصحافة جدًّا، ويتميَّز بذكاء ودهاء كبيرين، فتقرب بنيامين منه قاصدًا هذا التفوق، فقربُه من متفوق يُنمي مستواه، ويستفيد منه من خلال نقاشهما وحوارهما، ولكن أرئيل أيضًا كان يستفيد من بنيامين، فهو يعيشُ من مال بنيامين.
ودائمًا ما كان يأخذ منه المالَ على أنَّه قرض، وسيرده قريبًا عندما يبعث له أبوه المال، وتَمضي الأيام والشهور وأرئيل يُخلف عهدَه، ولا يوفي بما وعد، ويَغْدِر، حتى إنَّ بنيامين صار يعرفه، ودائمًا ينوي عدمَ إقراضه، ولكنَّ الغلبةَ في النهاية تكون لأرئيل، الذي يأتيه بخُبثه ودَهائه، وأنَّه مُحتاج، ولَم يبقَ معه ما يأكل به، ولديه احتياجات كثيرة، فيضطر بنيامين لتصديقه، ولو لم تكن هذه الحقيقة؛ حتى لا يخسر عقله واستفادته من تفوقه فقط، فكثيرًا ما كانا يَدرُسان مع بعضهما، ويتعاونان في فهم ما يصعُب فهمه من خلال النِّقاش والحوار.
ولتخصُّصهما في الصحافة، فلا بُدَّ لهما من الاهتمام بالسياسة، والأحداث الجارية، وهذا كان موضوع حوارهما في أغلب الأحيان، عندما كانا يريدان الابتعادَ عن حديث الدراسة، يجعلان هذه الحوارات سببًا لترفيههما؛ بحيث ترجِع الفائدةُ عليهما، حتى في الحوارات الجانبية؛ بحيث لا يبتعدان كثيرًا عن الصحافة، وكان من ضمن حواراتِهما في أحدِ الأيام قيامُ الدولة اليهودية، والهجرة إليها، وكان أرئيل هو مَن فتح هذا الموضوعَ؛ حيث بدأ الكلامَ قائلاً: أتمنى لو أعود إلى روسيا بَلدي الأصلي، فأنا لَمْ أحبَّ العيشَ هنا، ولم أتأقلم مع جَوِّ هذا البلد، فرد بنيامين مستغربًا من كلامه: أيعقل هذا؟ ألاَ تُحِبُّ العيشَ في وطنك؟! فهذا وطننا، وعُدْنَا إليه.
• هل تُصدِّق تلك الخرافات؟ أيّ وطنٍ تتحدث عنه؟ أوَطن بلا أمنٍ ولا استقرار، فما فائدته؟
• ولكنه وطننا وعلينا أن نبقى فيه دون أن نستسلم للمسلمين، الذين سرقوه منا.
• يا صديقي، لا تكن ساذجًا، فهؤلاء الذين تقول: إنَّهم سرقوه مِنَّا هُم أنفسهم مَن يُرَدِّد كلامنا نفسَه، ويُضحُّون بأنفسِهم من أجله، فهم مؤمنون به وطنًا لهم، وُلِدوا فيه، وتَرَبَّوا فيه؛ ولذا تراهم يُقاتِلون وهم أطفال، ويُقتَلون في سبيلِ استعادَتِه إلى قبضتهم، ولكن! هل رأيتَ يهودِيًّا ضَحَّى من أجلِ وطنه، الذي تتكلم عنه، فالجنديُّ يذهب إلى الجيش مُرغمًا طامِعًا في المال، وإيمانه بوطنه لا يكاد يُذْكَر مقابلَ إيمان هؤلاء بوطنهم، فلماذا نكذب على أنفسنا؟!
• لا، لا، كلامُك غير صحيح، فاليهودُ يُحبون "إسرائيل"، ويعودون إليها راغبين، ولا يُمكن لهم أنْ يتركوها حتى ولو كانت غَيْرَ آمنة.
• لن يطولَ صبرُ اليهود على هذه الحال، إلاَّ أن تصبح "إسرائيل" آمنة، وتنعم بالرفاهية، فهذان شرطان أساسِيَّان لليهودي، ومتى ما ذهب أحدُ هذين الشرطين، فاعلم يا صديقي أنها ستنهار؛ لأنَّهم سيهربون منها، فلا يعود اسمُها وطنًا، ولا ميعادًا، وأمَّا أنا، فمِنَ الآن لا أحبُّ العيش هنا، فأنا نشأت في روسيا، وبقيت فيها خَمْسَ عَشْرَة سنة، وأحبها أكثرَ من "إسرائيل"، فهي بلدي، وأحلم بالرجوع إليه؛ لأَنِّي لا أشعر بأيِّ انتماء لهذا البلد، وأخاف منه.
• أنا صحيح عشت في أمريكا، وأحبَبْتها أكثرَ من "إسرائيل"، ولكني أُومِنُ بأنَّ هذا وطني، فأمي رَبَّتْنِي على حُبِّه، وغرست في هذا الحب؛ ولهذا رغم اشتياقي لأمريكا، فإني أرضى بالعيش هنا؛ لأنه وطني، فكيف يعيشُ الإنسانُ بعيدًا عن وطنه؟!
• وهل سترضى بالعيشِ هنا إن ظَلَّت "إسرائيل" تُحارب وتبقى مُعادية لكلِّ جيرانِها؛ بحيث لا تنعم بالأمنِ أبدًا، فكما بدأنا نسمع أنَّ هناك حربًا مُحتملة؛ لأَنَّ بلدَك يا صديقي لن تبقى في حال السلام، ولن يستمرَّ وجودُها إلا بالحرب.
• لا، هذا كلام محللين وصحفيين، وانتظر قليلاً، "فإسرائيل" ستقوى ولن تحتاج إلى حروب بعدها.
• هذا ليس صحيحًا، "فإسرائيل" جاءت وأخذتِ الأرضَ من سَاكِنيها وأصحابِها؛ ولهذا فإنَّ أصحابَها لن يسكتوا، وسيبقون يُقاتلوننا إلى النِّهاية، وحتى وإن سكتوا، "فإسرائيل" تعلم أنَّها لن تستمرَّ إلاَّ بالقُوَّة؛ ولذلك ستعمل دائمًا على إشعالِ الحروب؛ لتضمن بقاءها.
سكت بنيامين هنا قليلاً، وفكر فيما قاله أرئيل، وكأنَّه اقتنع بوِجْهة نظره، ثم تابع قائلاً: ولكن إن كان كلامُك صحيحًا، فستكون حياة اليهود كالجحيم.
• هذا ما أريد قوله؛ ولذلك أحلُم أن أعودَ إلى روسيا، فأنا لا أُومِنُ بالتديُّن مطلقًا، وما أرض الميعاد؟ وما وطننا؟ كُلُّ هذا كلام سخيف، ولا أقتنع به.
• ربَّما أنا لست متدينًا أيضًا، ولكن أحيانًا أشعر بالراحة وأنا في القدس.
• أنت حر بأفكارك وشُعورك، ولكن هذا رأيي.
وبهذا الكلام انتهى الحوارُ؛ بسبب سكوت الاثنين؛ لأنَّهما رُبَّما شَعَرا بالإحساس نفسه، وهو أن هذا الوطن ليس وطنًا لهما، ومن يريد العيش فيه يكذب على نفسه؛ ليبقى فقط.
أمَّا الصديقة الأخيرة لبنيامين، فهي سيلينا، وهي فتاة ناجحة في دراسَتِها، وابنة صحفي كبير في إحدى الصُّحف اليهودية؛ ولذا كان بنيامين يطمع في أن ينشئ علاقةً جيدة مع أبيها؛ ليعرفه على صحفيِّين كبار؛ ليضمن لنفسه مكانةً في عالم الصَّحافة؛ ولذا كان مضطرًّا دائمًا لأن يصبرَ على ثِقَل سيلينا ابنة هذا الصحفي، رغم أنه لم يكن معجبًا بها، ولا بشخصِيَّتِها المنحلَّة قطُّ.
ولكنَّها كانت تعدُّه خاطبَها بينها وبين نَفسِها، وكانت تُعامِلُه على هذا الأساس، فهو شابٌّ أنيق جميل المظهر، صاحب شخصية قوية، يظهر من تفوُّقه أنَّه سيكون له مستقبلٌ في عالم الصحافة، وأهمُّ من هذا كله، فهو غَنِيٌّ ذو مال يفوقُ مالَ أبيها بكثير، رَغْمَ غِنَى أبيها أيضًا، ولكنها كانت لا تشبع من الغنى قطُّ، وكلما كان المال أكثرَ، كانت سعادتها أكثر، فهو لم يكن يُمثِّل لها الحبيب الذي لا تستغني عنه، بقدر ما كان يُمثِّل فرصةً لا ينبغي تضييعُها؛ ولذلك كانت دائمًا ما تُحاول أنْ تَجذِبَه لها بكل الطُّرق.
وكانت عندما تُحِبُّ أن تدعوه وحْدَه دون باقي الأصدقاء تَختار شقتها؛ لتكونَ مكانَ اللِّقاء؛ حيث كانت تسكُن فيها وَحْدَها، فأهلُها في تل أبيب، وهي استأجرتها؛ بسبب دراسَتِها في القدس، وكانت عندما يجتمعان تُحاول أن تَلْبَسَ أجملَ ما لديها، وأكثره إغراءً؛ لتملكَ قلب بنيامين، ولما كانت تعرض نفسَها عليه، كان لا يرضى بحُكم رأيه السابق في هذا الأمر، فقد كان يعده عملاً حيوانِيًّا، وكان هذا يغيظ سيلينا ويُغضبها.
ولكونه لم يكن يرغب بقطع العَلاقة معها مع حذره من أن يَعِدَها بالزواج؛ كي لا يبقى أسيرًا لهذا العهد، فقد اخترع عُذرًا؛ حتى لا تعاود مُحاولةَ إغرائه، وقال لها: إنَّه حلف يَمينًا في المعبد ألاَّ يَمَسَّ امرأةً إلا بعد الزواج، فلما أخبَرها بهذا العذر، كادت تَموت من الضَّحِك سخريةً منه، فلما سألها عن سببِ ضَحِكها، الذي لا يرى مُبرِّرًا له، قالت: أأنت يهودي؟! وما هذا الهُراء، الذي تنطق به؟ ومتى كنا نَحلف ونَبَرُّ بقسمنا، فرد عليها بكُل ثقة، وكأنَّه لم يكترث بقولها: ولكني أوَدُّ أن أبَرَّ بقسمي، وأكون يهودِيًّا مُميزًا عن باقي اليهود، وما العيبُ في ذلك؟
فرَدَّت باستغراب: ولكنَّ كلامَك لا يُصدِّقُه عاقل، فأنت شخصٌ غريب، ألاَ تُحِبُّ النساء؟ وهل أنت مريضٌ، أو فيك جنون؟ ألاَ ترغب بأن تُمتع نفسَك؟ فرد عليها بانزعاج: أنا لست مريضًا، وأرغب في النساء، ولكني لا أرغبُ في أنْ أكونَ حيوانًا، أَوَيُعجبُكِ ما تقومين به؟! فكل يوم مع شاب! هل تعتقدين أنِّي لا أعلمُ ذلك؟ بل أعلم، ولكني لا أتكلم؛ لسبب واحد فقط، هو أنِّي لم أجدْ يهوديةً إلاَّ حالها كحالك.
وهنا تغيَّر لونُ وجه سيلينا، وانزعجت من كلامه، فقالت له: هل أفهم من كلامك أنَّك تصفني بالحيوان، ولكن هذا ليس عيبي، بل عيبك، فأنت لستَ برجل، ولست إنسانًا طبيعِيًّا، فقاطعها: وهل أكون رجلاً طبيعِيًّا، إن عملت علاقاتٍ مع نساء فقط، وأكون رجلاً؟!
فقاطعته هي أيضًا: ليست اليهودِيَّاتُ فقط، بل أيضًا اليهود الرجال، فهم بشر يُحِبُّون أن يُمتعوا أنفسَهم، ولكن ربَّما أنت لست ببشر؛ إذ إنَّك صادقت أناسًا مسلمين، وتعلمت خرافاتِهم، فما إن ذكرت سيلينا هذا الكلامَ، حتى استشاط بنيامين غضبًا، وكأنَّها سَبَّته مَسبة كبرى، وقال وهو يصرخ في وجهها: هل جُنِنْتِ يا سيلينا، أتُشبِّهينَني بالمسلمين المتخلفين والمجرمين، الذين يُقاتلوننا؟! وهل تشبهينني بأعدائنا؟! هل أصاب عقلك شيئًا؟ كل هذه الاتهامات؛ لأني لم أُرْضِ أنوثتَك فقط، أنت فعلاً غبية.
واستمر في هذا الصُّراخ، وكأنه مجنون وهو يلومها ويَسبُّها، ثُمَّ أراد الخروجَ من بَيتِها، ولكنها بدأت تُهدِّئه، وتعتذر له، وتقول: إنَّها لم تقصدْ أَنْ تَجرحَه، وهي تنطق بهذا الكلام، ولكنَّها تكلمت به فقط عندما شعرت بأنَّه جَرَحَ كرامَتَها، وهنا هدأ بنيامين، وطلب منها أن لا تعيدَ كلامَها القاسي؛ لأنه لا يُحِبُّ المسلمين، ولا يحب أن يُشبههم أبدًا.
عاد بنيامين من سَهرته مع سيلينا، وبدأ يفكر في كُلِّ ما جرى، ويتكلم مع نفسِه: لِمَ هو هكذا؟ وهل هو طبيعي فعلاً؟ ولِمَ لا يُمتع نفسه كباقي اليهود، فهو لا يكاد يَجد يهوديًّا، ولا يهودية مثله، ثُمَّ حَوَّل تفكيره بشكل معاكس، وبدأ يفكر بسيلينا، ويلوم نفسه، وكيف أنه يَجعلها المرشحة الأولى للزَّواج بها، ثُمَّ سأل نفسَه مُتعجبًا ويائسًا: أيعقل أن لا يجد يهودية بلا صاحب؟ وهل من المستحيل أن يلتقي ويهودِيَّةً عذراء يتزوَّجها؟
ولكنه هنا تَحوَّل للوم نفسه؛ لسببٍ مغاير قائلاً لها: لِمَ أنت هكذا يا بنيامين؟ ولِمَ تريد أن تكونَ مختلفًا عن باقي اليهود؟ وما الضَّيْرُ في أنْ تكونَ غيرَ عذراء، فهذا أمرٌ طبيعي، وغير مستهجن في مُجتمعنا؟ فلِمَ تستهجنه؟ وهل ترغب بفتاة أفضلَ من أمك؟ فأمك نفسُها لها أصدقاء، وكذلك أبوك، فهل ترغب في أن تكونَ قديسًا أو حاخامًا؟ لِمَ هذا الجنون يا بنيامين؟! كما وصفتك سيلينا، ثم فكر في المسلمين الذين شبهته بهم سيلينا، وتساءل: أيعقل أن يكون جميعُ المسلمين مُبتعدين عن هذه العَلاقات؟ وهل فعلاً يقدرون على هذا دائمًا؟ فكان مستغربًا؛ لأنَّه لم يكن قد قابل مسلمين قطُّ إلى هذا اليوم، ولم يقرأ عنهم قطُّ، ولا عن عاداتِهم، وكل ما كان يعرفه عنهم هو أنَّهم سرقوا أرضَه، ويقاتلون اليهود، فهم لا يمثلون له إلاَّ الأعداء.
استمر بنيامين برفقة سارة، وكان يرتاح عند الحديث معها، وكانت تُكلِّمه عن مشاعرها وألَمِها وخوفها من مجتمعها، الذي تشعر بكراهيته لها؛ حيث كانت مُجرد فريسة يطمع بها كُلُّ الذئاب؛ كونها بلا أبٍ وقبل ذلك يهودية، فمن الطبيعي أن تُطلب صحبتها، ولكنها كانت تأبى ذلك؛ لنقمتها على أبويها وصنيعهما، الذي أدَّى بها إلى ما هي عليه.
وفي أحدِ لقاءاتِها مع بنيامين أتته متأخرةً، وبدأت تَعتذِر له؛ لعدم وَفائها بالموعد، وتأسفُ لانتظاره لها في المطعم وحْدَه، ثم برَّرت ذلك بأنْ أخبَرته أنَّ سببَ ذلك هو مُشاركتها لمظاهرة مع الفلسطينِيِّين الثائرين على ظُلم اليهود، وذلك بعد قتل اليهود لأحدِ العرب، فنظر بنيامين لها متعجبًا لا يكاد يصدق ما تقول، فهذه سارة الفتاة غير المبالية، والتي لا تهتم إلاَّ بالرقص والغناء اليومَ تأتيه، وهي مشاركة في مظاهرة، ومع مَن؟! مع أعدائهم العرب، فبَيَّن لها تعجُّبَه، وتساءل عن سبب هذا التغيير المفاجئ، فردت عليه أنَّ ما تفعله هو شيء طبيعي، فهؤلاء مظلومون وهي مظلومة.
فلَمَّا سمع قولها، قال لها: سارة، أتعين ما تقولين؟ هل جُنِنْتِ، وظلم أبويك لك أنساك وطنيتَك وانتماءَك "لدولة إسرائيل"؟ وهل يستحق هؤلاء المجرمون أن تتضامني معهم؟
• هؤلاء ليسوا مجرمين، بل نحن المجرمون، فمن أين أنا؟ ومن أين أنت؟ ومن أين كلُّ يهودي؟ فكلٌّ أتى من مكانٍ، واستولى على أرضِ العرب، ولم يكتفوا بذلك، بل يقتلونهم ويُشرِّدونهم، فأنا كهؤلاء ظُلِمْتُ بعاداتِ اليهود، وابتعادهم عن الأخلاق، وأنانيتِهم، وضعفهم أمامَ شهواتِهم، وهم ظلموا بقوةِ اليهود، وحاجة هؤلاء اليهود إلى وطن.
• لا، لا، أنت بالتأكيد جُنِنْتِ، لا يُمكن ليهودية أنْ تُعادي شَعْبَها، وتناصر أعداءه، سارة، أرجوكِ لا يدفعُك بُغضُك لِمَا فعله أهلُك لأَنْ تنقادي لهؤلاء الجَهَلة الذين يقاتلوننا.
• بل نحن من نقاتلهم، أتعلم لِمَ يتظاهرون اليومَ؟ يتظاهرون لقتل أحد رجالهم؛ لأنه لم يرضَ أن يخرج من أرضِه التي زرعها لعشراتِ السنين أمامَ أعين أولادِه الصِّغار، فهل هذا العمل عملٌ ترضاه يا بنيامين، فلَمْ يردَّ عليها؛ لأنَّه لم يعرف ماذا يقول؟ فتابعت قائلة: لو رأيتَ - يا بنيامين - الأطفالَ وهم يبكون حزنًا على أبيهم، لكُنْتَ علمت لِمَ أنا تغيرت؟ ولِمَ تضامنت معهم؟ أتعرف عندما وُجدت صدفةً في الأمسِ بعد مقتل هذا الرجل، نظرتُ لهذه العائلة وإلى وحدتِها وتَماسُكها وحُبِّها لبعضها البعض، فوجدت ما فقدته مع أفخاي وتالي اللذين لم يستطيعا أنْ يُقدِّما لي جزءًا من مائة ألف جزء مما عليه هذه العائلة؟
فأراد بنيامين أن يُنهي هذا الموضوع؛ لكونها تتكلم عن المسلمين بكُلِّ هذه الشفقة، فسألها: ومن أفخاي وتالي؟
• أفخاي وتالي! ثُم تنهَّدت، وقالت: هما أبوايَ العشيقان.
• تعلمين أنَّ أفخاي اسمُ أبي أيضًا؟
• أتمنى أن لا يكون مثل أبي، فأبي كلَّ يوم مع فتاة، رغم أنَّه أسيرٌ لإلين ولمالها.
• ومن إلين؟
• زوجته، فارتعب بنيامين من كلامها، ثم سألها عن اسم أبيها بالكامل، فإذا به هو نفسه أفخاي أبوه، فكاد يُجَنُّ، وصار يصرخ: أيعقل أن أبي يعمل هذا ويترك ابنته؟ أيعقل أنت أختي؟ كيف يكون لي أخت وأنا لا أعلم؟ أيعقل أن تصلَ خيانة أبي إلى هذا الحد؟ وكيف أخفى عن أُمِّي هذه الحقيقة كلَّ هذه السنين؟! وكانت سارة تسمع كلامَه في ذُهول، ولم ترد عليه بأيِّ كلمة، وهو يصرخ، ويكلم نفسه، إلى أن استوعبت الأمرَ.
ثُمَّ دنت منه، وصرخت به: أنْ كفى، ما أصابَكَ أجُننتَ؟ اسْمَعْ هناك شيءٌ رائع حدث، هناك أمرٌ مُذهِل قد تَمَّ، وأنا سعيدة جدًّا، فما أنْ سَمِعَ بنيامين هذا الكلام، حتى هدأ وسَكَنَ ونَظَر إليها مستغربًا، وقال: وما هذا الشيء الذي يسعدك؟ هل تسعدين بخيانة أبي لأُمِّي؟
فردت وعلاماتُ الرِّضا تبدو على وجهها: دائمًا كان أبوك يَخون أُمَّك، فما الغريب في خيانته مع أمِّي، ولكن - يا بنيامين - هل تعي ما نَحن فيه الآن؟ يا بنيامين، أنت أخي، ألاَ يسعدك هذا؟ أنا دائمًا كنت أحِبُّك، وأرتاحُ لك كما أنَّك صديقي، ولكنَّ اليومَ أنت شيءٌ آخر، أنت أخي، تعلم؟ لَمْ يكن لي أخ طوالَ عمري، وأنت أيضًا لم يكن لك أخ طوال عمرك، فلماذا لا نفرح؟
فبدأت تصرخ وتبكي في سَعادة وحزن مُتلازمين، أنت أخي، لِمَ لا أفرح؟ لِمَ لا أفرح، وهنا شَعَر بنيامين بهذا، وبدأ يُهدِّئها، ويُخفِّف من رَوْعِها، ويقول باطمئنان: نعم، نعم، أنت أختي، أنت أختي يا سارة.
ومن هذا اليوم صار بنيامين يُعامِل سارة على هذا الأساس، وصار أكثر اهتمامًا بها، ثُمَّ صارح أباه بما عَلِمَ، فطلب أفخاي منه أن يُخفي ذلك عن أمه، ولا يُخبرها بما عرف، ولكن بنيامين طلب منه أن يُخبرها، وأن يعطي سارة حقوقًا أكثر، ولكن أفخاي قال له: لا تتدخلْ بينه وبينها، ولَمْ يُجدِ إلحاحُه أيَّ فائدة، فاستَيْئَس من أبيه، ولكنه كان يُحاول هو أن يُعوضَها ما حرمها أبوها، واستمرَّت سارة على موقفِها كناشطة سلام، رَغْمَ معارضة بنيامين لها، ولكنه لم يكن يخبر أباه بذلك؛ خوفًا عليها.
وجاءت السنة الدراسية الثانية، والتي كانت عام 1967، وكانت هذه السنة بالنسبة لبنيامين مليئة بالأحداث الهامَّة، التي أثَّرت في حياته، وكان فيها أشياء جديدة تعرَّفَ عليها لأول مرة.
أولُ هذه الأحداث تعرُّفه على ماري البنت الفلسطينية المسيحية، وكانت أول عربية يتعرَّف عليها بنيامين، وهي من العرب القلائل، الذين كانوا يضطروا بحكم ظروفِهم للدراسة في القُدس، وغالبًا ما كانوا من القُدس الغربية نفسها، من العائلات القليلة جِدًّا التي بقيت تقطن القدسَ الغربية، رغم احتلالها عام 1948 من قِبَل اليهود.
ولم ترضَ هذه العائلاتُ بالهجرة، على الرَّغم من شُعُورِها بالغربة، وإن كانت تسكن في بَيتِها، فهي تحاط بيهود من كل الجهات، ولأن ماري تسكن هي وأسرتها القدسَ اضطرها ذلك للدِّراسة في جامعتها اليهودية، وهي تدرس التجارة، وهي فتاة عربية تُحِبُّ بلدَها، وتكره اليهودَ، وتَحلُم أن تتحرر فلسطين من مُحتلِّيها، وكانت علاقتها في الغالب مع المسلمين والمسيحيِّين القلائل، الذين يدرسون في الجامعة، وتعامُلها نادرٌ مع اليهود، فهو للحاجة والاضطرار، وكان تعرُّفها على بنيامين صدفة؛ حيث كانت هذه السنة هي السنة الأولى لماري، وكانت في بداية الأمر مُرتبكة جِدًّا، فعالم الجامعة جديد عليها، وكانت تشعر بالرهبة منه في البداية؛ ولذا كانت كثيرةَ الأسئلة.
وفي إحدى المَرَّات كان بنيامين هو مَن سألته، فسألته باستحياءِ الفتاةِ العربية، التي اكتسبت عاداتِها وتقاليدِها من العادات العربية والإسلامية؛ لأنَّ المسلمين والمسيحيين عاشوا لآلاف السنين جنبًا إلى جنب، فكان من الطبيعي أن تقتربَ العادات والتقاليد من بعضها.
فكان سؤالُها وهي تبحث عن أيِّ شخص يدرس في دراستها نفسها: هل أنت يا أستاذ تدرسُ التِّجارة؛ لأَنِّي أريدُ أن أعرفَ برنامجَ المحاضرات، وطريقةَ الحضور، فأنا أجد صعوبةً في ذلك؛ لأَنِّي لا أفهم نظامَ الجامعة، فنظر بنيامين إليها وهي تتكلم، واستغرب طريقَتَها في الكلام بهذا الحياء، الذي لم يتعوَّد عليه في كل سني حياته، وشَدَّه هذا المنظر، فلم يُجِب عن سُؤالِها، بل سألها سؤالاً أدهَشَها، ولم تفهم ما الذي دفعه لمثل هذا السؤال؛ حيث قال: هل أنتِ يهودية؟
فنظرت إليه مظهرةً دَهشتَها، والغموض الذي سَيْطَر عليها، ثم قالت: وما يُفيدُك إن كنتُ يهودية أم غير يهودية؟ وهل هذا ضروري؛ حتى تُجيبَ عن سؤالي؟ هنا زاد شكُّه في عدم يهوديتها، فاليهوديات لا يَجدن حرجًا بالتعريف عن أنفسهن لأيِّ شخص، فلديهن الجرأة اللامحدودة، ولا يمنعهن حياءٌ في إخبار أي معلومة عن حياتِهن، فقال لها: لا ليس ضروريًّا لأجيبك، ولكنني وَدِدت أن أتعَرَّف؛ لكونك زميلة فقط، وبالنسبة لدراستي فهي الصحافة، وليست التجارة، فلا أقدر أن أفيدَك، ولكن هل هناك من حَرَج إنْ عرفتُ هل أنتِ يهودية أو لا؟ فردت: أنا لستُ يهودية، فمباشرة قال لها: إذًا أنت مسلمة؟
• بل مسيحية عربية من القدس، ثم قالت مستهزئة: هل ترغب بمعلومات أخرى؟
• أنا آسف إن أزعجْتُكِ، فأنا لم أقصدْ ذلك، ولكني مُعتادٌ أن أتعرفَ على كلِّ من أقابله، ولكن ربَّما أنتم العرب لستم بقادرين على العيش مع الآخر.
• ومن قال هذا؟! بل نحن نستطيع التعايُش مع كلِّ الناس، ولكن هناك فرق بين الآخر المسالِم، والآخر المعتدي، وتركتْه وذهبت، فنادها ليكملَ الحديثَ، ولكنها لم ترضَ، وتركتَه ونسيت أمرَه، فهو كأي شخص سألته وتركته، وأكملت حياتها.
ولكنَّ بنيامين لَمَّا تركته لم يَنسَها، بل ظل يفكر فيها وفي شخصيتها الواثقة، رغم حيائها الذي أثَّر فيه كثيرًا، رُبَّما لأَنَّه يتعطش إليه منذ زمن، فحُلمه أن يرى فتاةً يكسو وجهَها الحياء، وهذا ما كان مستحيلاً في مُجتمعه اليهودي المتفلِّت، وما شجعه على أن يرغبَ في صداقَتِها هو أنَّها مسيحية، وليست مسلمة، فهو اعتاد أن يعاملَ المسيحيين في أمريكا.
ولكن ما كان يتخوَّف منه إن صارت هذه العلاقة هو أنَّها عربية، فهو يَعُدُّ العربِيَّ كالمسلم لا فرقَ، ولكن في النهاية انتصر شعورٌ في داخله لم يكن يعرف تفسيرَه تُجاهَ هذه الفتاة، فبحث عنها في الجامعة، والتقى معها من جديد.
فلما رأته استغربت مَجيئه، فهي لم تنوِ قطُّ أنْ تُقِيمَ عَلاقاتِ صداقة مع يهود، ولكنَّه اقتربَ وسَلَّم عليها، واعتذر لها عَمَّا حدث في لقائهما السابق إن سبَّب ذلك إزعاجًا لها، فردت عليه ببرود: أنْ لا مُشكلة، ولْينسَ الأمر، وأرادت أن تذهب، ولكنَّه ترجَّاها أن تبقى؛ ليتكلما ولو قليلاً، وطلب منها أن تعطيَه فرصة؛ ليُعرِّفَها على نفسه، وإن وجدته لا يستحقُّ، فسيبتعد هو نفسُه، ولكنَّها رفضت بِدايةً، وقالت: إنَّها لا يُمكن أن تصادقَ رجلاً ممن اعتدوا على أرضها واغتصبوها، فرَدَّ عليها باقتراح وافقت عليه بعد إلحاحه، وهو أن يكون هذا الموضوع سببَ لقائهما؛ ليتحاورا فيه؛ لعلَّ أحدهما يقنع الآخر بوجهة نظره.
فكان ذلك سببًا أوليًّا للقائهما دائمًا، على الرغم من أنه كان حجةً من بنيامين؛ ليتمكَّن من التعرُّف عليها، وكان ذلك يثير استغرابَ بنيامين نفسه، ويسأل نفسه: لِمَ هذا الاهتمام بها؟ ولِمَ يسعى للقائها، على الرغم من أنها عربية؟
ولم يعلمْ سِرَّ ذلك إلا في وقت متأخر من السنة، وهو أنَّه بدا أنه يُحبها، ويتمنى أن يتزوجها، وهي أيضًا وصلت لهذا الشُّعور بعد أن عرفته جيدًا، وشعرت في قرارة نفسِها أن بنيامين ليس شبيهًا باليهود تمامًا.
وكانا كلما التقيا جعلا ما اتَّفقا عليه هو موضوعهما، وهو وجود اليهود واحتلالهم أرضَ ماري وأمثالها، وأعمال اليهود وإجرامهم، ولم يكن هذا الحديث ليستمر لولا رغبةُ بنيامين بأنْ يُبقيه ذريعةً لرُؤيتها، فهو يخاف إن أوقفه يؤدي لتوقُّف ماري عن لقائه؛ لذا حَرَصَ عليه دائمًا.
كانت ماري تدافع بقوة عن حقِّ الفلسطينيِّين في أرضهم، وعودتهم لبيوتهم التي هُجِّروا منها، وتصف كيف ظَلَمَ اليهودُ العربَ عندما جاؤوا من أنحاء العالم، وسكنوا أرضًا ليست أرضَهم، وطردوا أصحابَها، وحولوهم إلى مشردين في أنحاء العالم، بدلاً من أن يكونوا هم المشردين، ودائمًا كانت تتكلم بحقد وبكره على كل من يقتُل ويظلم ويأسر العربَ، وتسأله: هل ما يعمله اليهود يوميًّا من أشكال الظلم والإجرام والتعذيب هو من حقهم؟ وهل هذا مقبول بالنسبة إليه؟
فيرد عليها بالمقابل مدافعًا عن اليهود، ويُبرر أفعالَهم الخبيثة، وأنَّهم من الذين ظُلموا، وهذه أرضهم التي وُعدوا بها، وهي وطنهم، وعلى المسلمين الذين فيها أنْ يسلموها لهم دون هذه الأعمال الإجرامية، التي يقومون بها؛ لأنَّ هذه الأرض ليست لهم، وإنَّما لليهود، وكان لا يتطرق في حديثه إلى المسيحيِّين، بل دائمًا يُركِّز على المسلمين، ويقول لماري: المسلمون عملوا، والمسلمون ظلموا، والمسلمون قتلوا، والمسلمون كذا وكذا؛ لسببين: الأول: كان هذا ما يعتقده؛ لأنَّه كان يكره المسلمين؛ بسبب تربية إلين له على كرههم، ولا يكره المسيحيين وإن كانوا عربًا؛ لأنَّه اعتاد صحبتهم في أمريكا، والسبب الآخر، وهو الأهم وهو أنَّه يُحِبُّ ماري، ولا يريد أن يؤذيَها.
ولكن ماري لم يكن يُعجبها كلامه، وكانت تُدافع عن المسلمين كما تدافع عن المسيحيِّين؛ لأنَّها كانت معتقدة تمام الاعتقاد أنَّ اليهود، كما ظلموا المسلمين، ظلموا المسيحيين، وفي مرة قالت له: لِمَ تكره المسلمين لهذه الدرجة؟ فالمسلمون هم أصحاب الأرض، وأنتم أتيتم من أصقاع الأرض؛ لتحتلوا أرضهم، وظلمتم المسيحيين كما ظلمتم المسلمين، فالمسيحيون عاشوا مع المسلمين لمئات السنين ولم يظلموهم، ولكن لما أتيتم فكان للمسيحيين نصيبهم من الظلم.
• نحن نحب المسيحيين ولا يمكن أن نظلِمَهم، ثُمَّ هذه أرضنا ووُعِدْنا بها، وعدنا الله بها؛ ولذلك أتينا؛ لنستعيدَ حَقَّنا، ونعيش بأمن، ولكن هؤلاء المسلمين الذين تتكلمين عنهم بهذه الطريقة المثالية هم من يعتدون علينا، ولا يريدوننا أن نعيشَ بأمن في وطننا.
• أي وطن تتكلم عنه؟! فنحن والمسلمون منذ آلاف السنين على هذه الأرض، فهل تُقنعني أنَّكم الذين أتيتم منذ 19 سنة أحقُّ بهذه الأرض ممن عاش فيها لآلاف السنين؟ فأنت مثلاً ولدت في أمريكا، وعشت لسنين هناك، فما الذي جعلك تترك بلدَك، وتأتي لتعيش في بلدٍ ليس ببلدك؟ أليس ذلك هو الظلم بعَيْنِه؟
• هذا أكبر دليل على أننا أصحابُ حق، فلو لم يكن وطننا، لَمَا تركنا بلادًا كنا نعيش فيها في أمنٍ وأمان، وأتينا هنا نَحتمل ظلمَ المسلمين وأفعالهم من أجل العيش وسط وطننا.
• ما هذا الهراء؟ هل تظنني غبيَّة لأقتنع بهذه الأكاذيب؟ ثم اعلم يا بنيامين، هذه الأرض ليست لكم، حتى ولو بقيتم عشرات السنين، ولن يترككم الفلسطينيُّون تأمنون في أرضِهم، وستذكر هذا، وصدقني ستَبْقَون في رُعب تنامون عليه، وتستيقظون عليه ما دمتم تأخذون أرضًا ليست لكم.
• بل اعلمي يا ماري أنَّنا سنبقى هنا على أرضنا، وسيأتي اليوم الذي يَخرج فيه المسلمون من ديارنا، ونعيش في أمنٍ واستقرار.
• إذًا لنصبرْ، وسنرى ماذا سيحدث.
وهكذا استمرت نقاشاتُهما، ولم تكن هذه الحوارات تُجدي مع الاثنين، فلا أحدَ يقنع الآخر، وإنَّما كانت هذه الحوارات حُجَّة للطرفين؛ ليلتقيا، وكانت تصاحب هذه الحواراتِ أحاديثُ جانبية، يتكلمان فيها عن شخصيتهما، وما زالت هذه الأحاديث تزداد حصتها من الوقت المتَّفق عليه للحوارات، حتى طَغَت على لقائهما، ونَسِيَ الاثنان موضوعَ اليهود والمسلمين والعرب، ومَن له الحق بامتلاك الأرض، حتَّى صار الحديث كله للقلب، وبدأ حبهما يكبر يومًا بعد يوم، وصار الحديث عن الأحلام والمستقبل، ونَسِيَ بنيامين يهودِيَّته، ونسيت ماري مسيحيتها، أو تناسيا؛ لأنَّهما يعلمان أنَّ ذلك سيقف عائقًا أمام حبهما، ولذلك أجَّلا التفكيرَ في ذلك؛ ليتمتعا بحبهما.
جاء الوقتُ الذي قويت فيه علاقة بنيامين وماري، وأصبحا لا يكادان يفترقان، وكان كلُّ شخص يُكلم الآخر عن ماضيه، وشخصيته، وأحلامه، وأمانيه، وعن زواجهما، والعائق الأكبر أمامهما، وكيف يتزوج يهوديٌّ مُحتل بمسيحية من البلد المحتل.
وبسبب هذا القرب تَجرَّأ بنيامين، وسأل ماري من غير أيِّ مقدمات، وقال: ماري، هل أنت عذراء؟ فاحْمَرَّ وجه ماري استحياءً، ولكنه حياء صاحبه كَمٌّ هائل من الغضب، فكأنَّما اختفت ماري الفتاة الهادئة، التي اكتسبت من عروبتها حياءً وهُدوءًا ولينًا، وجاء مكانَها امرأة شرسة قوية، فهذا السؤال كان ثقيلاً عليها، ولم تكن ترغَب في أنْ يتجرأ أحدٌ ويسألها عنه مُطلقًا؛ ولهذا صرخت في وجهه، والغيظُ يَملؤها: فعلاً إنَّك يهودي، كيف تَجرُؤ على هذا السؤال الخبيث؟!
فأراد بنيامين أن يُهدِّئها عندما رأى ما حدث لها، وأدرك خطأه، فهو لا يتعامل مع يهودية، ولكنها لم تترك له المجالَ مُطلقًا، وتابعت كلامَها قائلة: تعامُلك مع اليهوديات أعمى بصرَك، وأنساك مع من تتكلم، أنا عربية، وليكن في علمك، فالعربية لا تقبل ما تقبلونه أيُّها اليهود.
فقال بنيامين وهو مرتبك: اهدئي، سامحيني، أنا سألتك فقط؛ لكوني أعلم أن المسلمات لا يسمحن بذلك، ولكنني ظننت أنَّك كالأمريكيات المسيحيات، فقاطعته: كفى، اسكت ولا تتكلم، وأنا قلت لك: العربيةُ وليست المسلمة فقط، فنحن لنا العادات نفسها، ولا نقبل بما تقبلونه أنتم، وتركته وانصرفت غاضبة، وحاول أن يُنادي عليها وهو يتأسَّف ولكن لا فائدة.
انزَعَج بنيامين؛ لأنَّه أزعج ماري، ولكنَّه في الوقت نفسه شعر بسرور كبير؛ لأنه استطاع أن يلتقي وفتاةً ليست كاليهوديات، ولم تسلم نفسَها لأحد؛ ولذا جاء في اليوم التالي إليها، واعتذر لها، وشرح لها موقفه، وأنه من كثرة ما رأى من النساء اليهوديات، أصبحَ يظُنُّ كلَّ النساء على هذه الحال، وطلب منها أن تسامحه، وذكر لها أنه هو أيضًا ليس كالشباب اليهود، ولم يكن له أي علاقة، ولكنها لم تصدقه في بداية الأمر، ولكنها مع معرفتها به أكثر علمت صدقه.
وكانت علاقتهما خاصَّة بينهما، لا يتدخل فيها أحد، ولا تُزعِج أحدًا من أصحاب الطرفين، فلِكُلٍّ حريته، ولكنه كان هناك شخص واحد منزعجًا من هذه العلاقة التي أصبحت مكشوفة على صعيد الجامعة، وهذا الشخص هو سيلينا التي نصبت نفسها مخطوبة لبنيامين، وكادت تَموت من الغيظ والغَيْرة، ولم تكن تدخر جهدًا في سبيل القضاء على هذه العلاقة، وبعد تفكير كبير قرَّرت سيلينا أن تخبر أهل بنيامين وماري بعلاقتهما؛ لتأكدها من كره العرب لليهود المحتلين، وكره اليهود للعرب، وإن كانوا مسيحيين، وهذا سيكون كافيًا حتى لا يتم هذا الزواج، خاصة من قبل أهل ماري، فالعرب بحكم تَماسُك أسرِهم قادرون على منع ابنتهم من هذا الزواج.
وفعلاً ذهبت وأخبرت الأسرتين، وجُنَّ جنون الأسرتين حينما سَمِعَا، وقررَا فورًا العمل لمنع الزواج، وطبعًا هذا لم يكن ليؤثر على بنيامين؛ لأنَّه لو كانت ماري وأسرتها موافقين لم يهمه رأيُ أهله، وسيتزوجها رَغْمَ ما أبدى أهله من انزعاج ومُعارضة، وأخبروه أنَّ هذا الزواجَ لا يُمكن أن يتم، ولو أصر بأي حال من الأحوال، فلا يُمكن لهم أن يقبلوا بأن يتزوج ابنهم من عربية، ولكن كل ذلك الكلام لم يكن يهتم به، بل انتظر ما سيكون رد ماري؛ لأنَّ القرارَ أصبح بيدها، فإن وافقت فليس عنده مشكلة، رغم كلام أهله؛ ولذلك وصل أفخاي وإلين إلى اليأس حينَ رأوا عدمَ اكتراث بنيامين بكلامهم.
ولَمْ يَبْقَ لديهم أملٌ إلاَّ أن تكون المعارضة من أهل ماري؛ ولهذا استسلموا ليروا رأيَ أهلها، وكان لهم ما أرادوا، فمن الطبيعي رفض أهل ماري العرب، الذين لا يمكن لهم أن يقبلوا أنْ تتزوج ابنتهم بيهودي أصلاً، فما بالهم بأنه محتل إسرائيلي، ولم يكونوا كأهل بنيامين مُتساهلين، بل جُنَّ جنونهم، وفوجئوا بما أخبرتهم به سيلينا، وهَدَّدوا ماري بالقتل إن تزوجت بهذا اليهودي المحتل، ولكنَّهم في الوقت نفسه أرادوا أن يكونَ للنِّقاش دَوْره في إقناعها؛ حتى لا تتمرد عليهم، وتعمل ما تشاء، بل أرادوا أن تقدم هي على رفض الأمر، وتعلم أن هذا الزواج سيجلب العار عليها، وعلى أهلها.
فقال لها أبوها قاصدًا إقناعها بالعقل: يا ابنتي، ما تفكرين فيه ضربٌ من الجنون، وهو المستحيل بعينه، فهل تريدين أن تتزوجي بمن احتلَّ أرضَك، وأرض آبائك وأجدادك؟ وهل تريدين أن ترتبطي بمن حوَّلك لوضعٍ مادي متوسط بعد أن كان أهلُك يَمتلكون المزارعَ والأراضي؟ أو هل ستنجبين أبناءً يقتلون أبناءَ إخوتك وأبناء أخواتك؟ فردت ماري وهي مقتنعة بكلام أبيها مائة بالمائة: ولكن يا أبي أنا أحببته، وهو ليس كاليهود، وهو طيب، ويقتنع بالنقاش، وهو أيضًا يحبني.
فرَدَّ أبوها وهو يقدِّر مشاعِرَ ابنته: لو اقتنعنا بكلامِك، وكان صحيحًا، وهو ليس كباقي اليهود، ولكنه ألَم يقبل باحتلال فلسطين؟ ألَم ينتقل من بلده الأصلي، وجاء ليعيش على أرضِنا، ولتعلمي شيئًا، وهو أنَّ الأرض التي يعيش عليها، ويبني منزله فيها هي أرضُ جدك، وإن لَم تصدقي أُرِيكِ أوراقَ ملكية الأرض، وليكن عقلك أكبر، اعذريني يا ابنتي؛ لأَنِّي سآخذ موقفًا صارمًا لا رَجعة فيه، لأساعدك فقط على النسيان، وهو أنني قرَّرت أن أذهبَ للقدس الشرقية؛ لنكونَ تابعين للأردن، بدلاً من أن نتبع لهؤلاء المجرمين، مع أنني لم أكن أنوي تركَ أرضي قطُّ، ولكن لأجلك سأفعل هذا، رغم صعوبته فسكتت ماري، واستسلمت لقرار أبيها؛ لأنَّها تعلم أن زواجَها من بنيامين كان مستحيلاً، وسيظل مستحيلاً.
في اليوم التالي ذهبت للجامعة، والتقت هي وبنيامين اللقاء الأخير، وأخبرته بما جرى بينها وبين أبيها، وأنَّ زواجهما مستحيل، وليس هناك أي مَجال للنِّقاش في ذلك، فقال لها بنيامين متألِّمًا: ولكني أحبَبْتك، وأتمنى الزواجَ بك.
• وأنا أيضًا أحببتك، وتَمنيت أنْ أتزوجَك، ولكنَّ هذا مستحيل الآن، فأنا كنت أعول على تأخير الأمر، فأخفيته عن أهلي؛ لعلنا نجد مخرجًا، ولكن دخول تلك الخبيثة صاحبتك اليهودية بيننا هو ما أفسد ما خططت له، وقتلت حبنا، قاتلها الله.
• نعم، علمت بذلك، ولكن دعك الآن منها، ولنحاول ونحارب الناسَ كلها في سبيل حبنا.
• أنا لم أعُد أريد أيضًا، فلن أُوذي أهلي، واقتنعتُ بكلام أبي، وهنا استأذنت وأرادت الذَّهاب فناداها: ماري.
• نعم.
• هل سأراك.
• لا أعتقد، خاصَّة أنِّي أفكر في السَّفر إلى لندن؛ لأكملَ دراستي، وأعيش مع أخي الذي يعيش في بريطانيا، ومشت.
• ماري.
• ماذا بعد؟
• أتمنى لك التوفيق.
• وأنا أيضًا أتمنى أنْ أراك صحفيًّا كبيرًا، ولكن أقولُ لك كلمةً أخيرة: فَكِّر في كلِّ ما تناقشنا فيه، واعلم أنَّ الحقَّ معنا، وأنتم مَن أتيتم، واحتلَلْتم الأرضَ، وظلمتم الإنسان، ولتذكر دائمًا وكما قلت لك: إنَّك تسكن في بيتِ جَدِّي تعيش وتأكُل وتنام على أرضي، التي كان من الطبيعي أنْ أرثَها، وأنعم بها، ولكن جئتم وصرتم أنتم من تتنعمون بها.
وعلى كلٍّ، فإن كنت حبيبًا لي، فستبقى يهوديًّا، وأجبرتني أنا وأهلي لنترك القدس الغربية، صحيحٌ أننا سنذهب للشرقية، ولن نبتعدَ كثيرًا، ولكن على كل حال فسنترك أرضنا، التي عشنا فيها طوالَ عمرنا، وذلك بسببك؛ يعني: بسبب اليهود، فكلكم سواء؛ لذا أقول لك قبل أن أتركَك ولأول مرة: بنيامين، أنا أكرهك، وتركته ومضت.
نظر بنيامين إلى ماري، وهي تبتعد عنه، وظَلَّ يرمقها إلى أنْ غابت عن نظره، وكلمة "أنا أكرهك" ظل يسمعها في نفسِه لساعات طوال، حتى إنَّها ظلت تأتيه بين الفترة والفترة لأيام كثيرة بعدها.

ذهب بنيامين إلى لقاء سيلينا التي كادت تطير فرحًا بفراق بنيامين وماري، وأول ما التقت معه باركت له بُعدَه عن ماري تلك العربية الحمقاء والغبية، و... و... و... وكثير من الصفات التي استمرت تُردِّدها، وأخبرته كم هي سعيدة ببعده عن تلك العربية المقيتة! فرد عليها ووجهه يقطر غيظًا: وأنا أيضًا سعيد، ولسعادتي أود أن أقول لك كلمات.
• تفضلْ، قل يا أحبَّ الناس.
• أولاً: أنا تركت ماري، ولن أتزوجها أبدًا، فسرت سيلينا بكلامه، وقالت: وهذا ما يفرحني، ويَجعلني بغاية السعادة.
• ثانيًا: لم يكن زواجنا من البداية مُمكنًا، وكنت أشك بأنه سيأتي اليوم الذي نفترق فيه، وفعلاً افترقنا.
• وهذا الوضع الطبيعي "تتكلم ووجهها يَملؤه السرور".
• ثالثًا، ولأول مرة أقولها لك: إنَّني وقبل معرفتي بماري أنوي الزَّواج منك، وكان من الطبيعي عندما أفترق عن ماري لسبب أو لآخر أعود إليك.
• والآن قد عُدت وانتهت المشاكل، وكلامك الآن يسعدني؛ لأنَّك كنت تفكر في، فكم كنت أتمنى ذلك! ولكنك كنت تبخل بإخباري بمشاعرك.
• رابعًا، وهو الأهم، وكونك كنت السبب في فراقنا، ومع أنَّ فراقَنا كان له عشرات الأسباب ليتحقق، وفي النِّهاية ففراقُنا لم يكن إلاَّ بسببك، فإنِّي أقول لك وبملء فمي وبكلام لا رَجعةَ فيه: سيلينا، لا يمكن أن أتزوجَ منك، ولا تحلمي مجردَ حُلم بذلك، وما دمت تسعدين بفراقي عن ماري فاسعدي، ولكن بعيدًا عن وجهي، فأنا أكرهك غايةَ الكره.
• بنيامين، ماذا تقول؟ فأنا أحبك، ولم أفعل ما فعلت إلاَّ لأجلك، فهل هذا جزائي؟
• قلت لك ما عندي، وليس عندي المزيد.
• ولكن أبي صحفي كبير، ويمكن أن يساعدَك؛ لتنجحَ في عملك، أرجوك بنيامين لا تكن مجنونًا، وتضيع مستقبلنا مع بعض.
• لا أريدك، ولا أريد أباك، ولا أرغب في النَّجاح إن كان عن طريقِك، وتركها وهي تحاول شَدَّه واسترضاءه، ولكنه لم يلتفت إليها.
ولأن بنيامين كان يخبر أخته "غير الشرعية" سارة بكُلِّ ما يحدث معه، وعلاقته مع ماري وحبه لها؛ لذلك ذهب إليها؛ ليخبرها عن آخر التطوُّرات، وقصة فراقه المؤلمة له جِدًّا، فسمعته بأُذُن الأخت، وكانت تشعر به، فهي كانت تتمنى أن يتزوجها؛ إذْ رأت حبَّه لها وتعلقه بها، أو ربَّما كما كانت تفهم تعلقه بتميزها عن اليهوديات؛ لأنه وجد بماري صفاتٍ كان يُحبها لم يكن يَجدها في الفتيات اليهوديات.
وبدأت تُهدئه وتخفف عنه؛ عَلَّه يجد فتاة مثل ماري يقدر أن يتزوَّجها، فظلت هكذا حتى اطمأنت نفسه، وارتاح كعادته حينما كان يأتي إليها ويُكلمها، وبعد انتهاء الحديث اعتذرت له؛ لأنَّها مُضطرة للاستئذان؛ لتذهبَ في مظاهرة مع العرب، فحاول أن يقنعها؛ كي لا تذهب، ولكن دون فائدة ككلِّ مُحاولاته السابقة، فكثيرًا ما كان يدعوها لترك هذا العمل، ولكن دون فائدة، خاصَّة أنه بدأ يعلم أنَّ اليهود بدؤوا يلاحقونها.
وكانت كثيرًا ما تأخذها الشرطة؛ لتحقِّق معها، وتدعوها للابتعاد عن هذه الأعمال، فلما اسْتَيْئَسَ بنيامين منها، تركها تذهب إلى ما تريد، فدعته ليراقب ما تعمل في المظاهرة، ومزحت معه قائلةً: ما رأيُك أن تذهب وترى أختك، هل تصلح للسياسة أو لا؟
فلأنه كان يحبها ويأنس بكلامها، وافق حتى يُحقق لها السعادةَ، التي يتوقعها منها لو ذهب، وفعلاً بدأ يُراقبها من بعيد، وكيف تتكلم مع العرب، وتمشي معهم وتضحك وكأنها منهم، واستغرب أنَّها ترمي الحجارة معهم، فكان مندهشًا من تصرُّفاتِها وإيمانها بهؤلاء العرب، ولكن هذه المظاهرة لم تستمر كعادتها هكذا: رمي حجارة، ومضايقات من اليهود، بل اشتدت المواجهات حينَ ضرب يهوديٌّ طفلاً على رأسه بمُؤخرة بندقيته، فأدى ذلك لفقد الطفلِ لوعيه، وأرادوا أن يسعفوه، ولكنَّ الشرطةَ منعتهم، وبدأ النُّشطاء اليهود، ومعهم سارة والنشطاء الغربيُّون الموجودون يومها بترجِّي الشرطة، ولكن دون فائدة.
رأت سارة أبا الطفل وأمَّه ينهاران من كثرة الصُّراخ على الشرطة؛ ليسمحوا بإسعاف ولدِهم، الذي بدأت حالته تسوء، وكان هذا المنظر، كمنظر ذلك الرجل الذي قُتِلَ، وكان سببًا في تغييرها؛ لتماسُك عائلته يومها.
والآن هذان الأبوان رأت خوفهما على طفلهما وحنانهما، الذي كان أكثر ما يؤثِّر بها لفقدها له، فلا أبوها معترف بها، ولا أمها تهتم بها، وكل يوم مع صديق، فقامت بعد أن رأت هذا المنظر، وأخذتِ الطفل من أمه، وركبت سيارتها؛ لتُسعفه، ولكن الشرطة سحبوها، ورموا الطفل على الأرض رغم جرحه ونزفه، فلم تحتمل الأم، خاصَّة أنَّها رأت ابنها وكأنه قد مات، فاستسلمت لموته، وجاءت تهجم على الشرطي هي وأبوه وبعض السكان.
فلاحظت سارة أنَّ الطفل لم يَمُت فأخذته؛ لعلها تهرب به مستغلةً زحام الناس وهم يتشاجرون، ولكنَّ جنديًّا آخر كان منتبهًا لها ويَملؤه الغيظُ منها، ومن عطفها على الطفل العربي؛ لمعرفته بيهوديتها، فقام ودهسها بسيارته التابعة للشرطة مُصورًا الأمر على أنَّه بغير قصد، فلم تقم سارة من مكانها وبقيت ميتة في أرضها.
كان بنيامين يرمق ذلك كلَّه، فلما حدث ذلك لسارة، هرع إليها مرعوبًا من أجلها، ولكنَّه لم يلبث أن عَرَفَ موتَها وموت الطفل الذي معها، فكانت هذه الحادثة من أشدِّ ما مر به ألَمًا، فبعد أن وجد له أختًا أحبَّها، وسمعها وسمعته، فقدها في وقت قصير جِدًّا، وتذكر كلامَها عن العرب، ودفاعها عنهم، فعرف في قرارة نفسِه دون أن يعترف بذلك أنَّها كانت ضحيةً من ضحايا ظلم اليهود، حالها كحال العرب التي كانت تؤمن بأنَّهم ظُلِموا.
وحزن أفخاي أيضًا على ابنته، التي لم يكن بقادر على أن ينسبَها له؛ لزواجه، مع أنه نسب طفلاً ليس بطفله له، وعلمت إلين بالأمر، فانزعجت بداية، ولكنها في النهاية قبلت الأمر، فما عمله أفخاي من خيانتها، فهي عملته، وتعمله أيضًا وتخونه، خاصَّة أن ابنته ثَمرة هذه الخيانة قد ماتت، ولكنَّها أيضًا علمت أن سبب تأخير أفخاي لمجيئه إلى القدس هو أنَّ سارة وأمَّها كانتا في أمريكا، وأن اختياره للقُدس لم يكن إلاَّ لأنَّهما أتيا إليها.
أمَّا الحدث الآخر الذي جرى مع بنيامين بعد هذين الحدثين، وكان له أثرٌ في حياته، وفي اتِّخاذ قراراته: عندما استيقظ يومًا وهو يشعُر بألم في بطنه ورأسه، حتى إنَّ جسمه كله لم يكن على ما يُرام، وبعد أن قرَّر أن لا يذهب إلى الجامعة، تذكَّر أن لديه محاضراتٍ مهمة، عليه عدم الغياب عنها، فأخذ بعضَ المسكنات وذهب إلى جامعته، ولكنَّه بَقِيَ متعبًا، ولا يكاد يدرك ما حوله، فأراد في الاستراحة أن يذهبَ لأحد المقاعد؛ ليرتاحَ قبل أن يعودَ لبيته، ولكنه أُغْمِيَ عليه قبل وصوله للمقعد، فسقط أرضًا، فرَكَض إليه ثلاثةُ شبان؛ لينقذوه ونقلوه في سيارتهم إلى بيت أحدِهم؛ ليسعفوه هناك.
وفعلاً أسعفه الشابُّ صاحبُ البيت الذي أسعف بنيامين إليه، فلم يكن به إلا البرد، فأعطاه بعضَ الأدوية اللاَّزمة، التي حسَّنت حالته، فلما حاول بنيامين النهوضَ؛ ليذهبَ إلى بيته، رفض هذا الشاب؛ حتى لا يعود ويُغمى عليه مَرَّة أخرى، وطلب منه أن ينامَ قليلاً؛ حتى يتأكدَ من شفائه، وفعلاً نام بنيامين نومًا عميقا بهدوء وسكينة، حتى إنَّه أطال النوم على غير عادته، ثم استيقظ على صوت جميل لم يسمع مثلَه من قبل، ولكنَّه شعر أنَّه يألفه ويعرفه، مع عدم مَعرفته به.
فسمع له باهتمام وشعر بانشراح صدره، واطمئنان لم يشعر به من قبل، وكان كُلَّما أراد أن ينادي على صاحب الدار؛ ليعودَ إلى بيته، كان جمالُ هذا الكلام يَمنعه؛ ليكسبَ وقتًا أطولَ في سماع هذا الكلام، ولكن ما أراد تأجيله حدث، فقد دخل الشاب صاحب المنزل، واعتذر له أنَّه تأخَّر عليه؛ لأنه يظن أنه ما زال نائمًا، فقد دخل عليه عِدَّة مرات ووجده نائمًا، فقال له: لِمَ لَمْ تنادِ عليَّ؟ وكيف حالك الآن؟
• لا عليك، الآن استيقظت، وأصبحت بأحسنِ حال، وأريد أن أذهب لمنزلي.
• تعود لمنزلك! مستحيل، فنظر إليه بنيامين مستغربًا مع شعوره بالخوف، ثم حدث نفسه: أيعقل أن يعملوا بي مَكروها؟!
• ما بك؟ هل تريد أن تذهب من دون طعام، فقد اقترب المغرب، وأنا متأكِّدٌ أنك لم تتناول شيئًا اليوم، فكيف تقوى على المشي في حالتك هذه؟

يتبع ............... انتظروا ابوفتحي قرب العيد









عرض البوم صور ابو فتحي   رد مع اقتباس
قديم 09-08-2012, 07:31 PM   المشاركة رقم: 14
المعلومات
الكاتب:
علوووش
اللقب:
عضو فخري
الرتبة


البيانات
التسجيل: Apr 2012
العضوية: 9619
المشاركات: 539 [+]
بمعدل : 0.12 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
علوووش غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

شوف يا ابو فتحي ما بدي اكتب نص تعليق وقول ...................يتعبع انتظروني
بكتب التعليق كامل وما بجامل
بس لما الموضوع يكون كامل
القصه فيها وجة نظر والف عامل









عرض البوم صور علوووش   رد مع اقتباس
قديم 05-02-2013, 08:09 PM   المشاركة رقم: 15
المعلومات
الكاتب:
ابو فتحي
اللقب:
مدير عام سابق
الرتبة


البيانات
التسجيل: Jun 2010
العضوية: 2821
المشاركات: 531 [+]
بمعدل : 0.11 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو فتحي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:
إرسال رسالة عبر Skype إلى ابو فتحي

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

• شكرًا لا داعي للطعام، مشوار الطريق فقط، وأتناول طعامي.
• الغداء جاهز، سأحضره فقط، فوافق بنيامين على البقاء وهو يعلم أنَّه لم يبقَ إلاَّ ليكسبَ وقتًا أكثر؛ لسماع الكلام، الذي ما زال موجودًا، والذي أخذ لُبَّه، ولكنَّه في الوقت نفسه سأل نفسَه: ماذا يُمكن أن يكونَ هذا الذي يسمعُه، ومَن هؤلاء؟ أيعقل أنَّهم مسيحيون ممن يعيشون في القدس؟ ولكن هذا الذي يسمعه لم يسمعْه عند مسيحيين، ولكن تفكيرَه قُطِعَ بدُخول الشاب مع الطعام، وبدأا يأكلان، ثُمَّ فجأة توقَّف الصوتُ ولم يعد يسمعه، فأزعجه ذلك، ولكن لم يرد إظهارَ هذا الانزعاج، ثُمَّ سأل الشاب: ما هذا الصوت، فرد الشاب: وأي صوت؟!
• الذي كنا نسمعه وقُطِع.
• ليس لدينا أصوات، حتى الأطفال طلبنا منهم أن يبتعدوا وهم يلعبون؛ حتى لا يزعجوك.
• لا، لا، صوت آلة التسجيل، كأنَّه أغانٍ، أو ما شابه، فردَّ الشاب مستغربًا من جهله: غريب حقًّا، الآن فهمتك، هذا ليس أغانِيَ، بل قرآنٌ كريم، فهذه أمي أم سليم تُحِبُّ أن تسمعَه وهي تعمل، فهي سعيدة بآلة التسجيل، التي جلبتُها لها منذ أيام قليلة، فوجدت فيها ضالَّتها؛ لتسمعَ القرآن دائمًا، والآن أرادت صلاةَ المغرب؛ لذلك أغلقته، ولكن ألاَ تسألني لِمَ استغربت؟
• لِمَ؟
• فعلاً شيء يُثير الاستغراب، أيعقل أنْ لا تُميز صوتَ القرآن من الأغاني، فأغلب من عرفتهم من اليهود يعلمون أنَّ هذا قرآن.
شعر بنيامين بالحرج من جهله، ولكن حاول أن لا يظهر ذلك الحرج، فسأل: أتقصد الكتاب المقدس عند المسلمين؛ يعني: أنت مسلم؟!
• وهل يزعجك أن تكونَ في بيت مسلم؟
فوجئ بنيامين من سُؤاله، وتذكَّر كلامَ أمِّه إلين، التي علمته أنْ لا يظهر بُغضَه للمسلمين، فقال مستدركًا؛ حتى لا يظهر ارتباكه، أو أنَّه تأخر في الرد: لا، لا، لِمَ تقول ذلك؟ ولكني لم أنتبه إلى أنَّك مسلم في البداية، أمَّا عن جهلي بالقرآن، فهذه أول مرة ألتقي أنا ومسلم مباشرةً، ولا أعلم الكثيرَ عن دينكم.
• غريب، فمن كتبك يظهر أنَّك تدرس الصَّحافة، وعلى الصحفي أن يكون له اطلاعٌ على كل شيء، فما بالك بمن احتللتم أرضَه، واغتصبتم حقه؟!
انزعج بنيامين من كلامِه، وقال: هذا كلام مُضلل، وليس صحيحًا، بل نحن عُدنا إلى أرضنا، وأنتم مَن عليكم أن تتركوا لنا أرضنا، التي استوليتم عليها لمئات السنين.
• لا يمكن لمحتل أن يبقى مئات السنين، فهذا مستحيل، فالمحتل لا يبقى أكثرَ من عشرات السنين، أمَّا أصحاب الأرض هم من يبقَوْن لمئات ولآلاف السنين.
لَمْ يرغب بنيامين في مُتابعة الجدل؛ لأنَّه يرى أنَّ الوقت غيرُ مناسب، فقال: لنترك هذا الجدل العقيم، فالوقت غير مناسب، ولأسألك سؤالاً حَيَّرني، وهو: لِمَ أسعفتني ما دمت غير يهودي، وأرى في عينيك كُلَّ هذا الكُره لي ولليهود، فكان من الطبيعي أن تتركني وتتمنى لي الموتَ، أو على الأقل تترك إسعافي للشباب اليهود الذين كانوا موجودين، وبالتأكيد سيكونون بعدد أكبر منكم أيُّها المسلمون؟
• أولاً: أنا لا أكرهك لشخصِك، ولا أكره اليهودَ لشخصهم، بل أكره فيكم احتلالَكم، وظُلْمَكم، ومَجيئكم إلى هنا بغير حق، ثم فأنا وأنت لسنا بحرب حتى أتركك أمام عيني يُغمى عليك، ولا أُحرِّك ساكنًا، حتى ولو كنت في حرب، فديني يأمرني بأنْ أعالِجَ المحتاج، فما فعلته شيء طبيعي، وشيء إنساني، وهذا ليس فعلي فقط، بل فعل كل مَن أسعفك معي، ولكن اختيار بيتي لم يكن إلاَّ لأنني أدرسُ الطبَّ، فأتينا بك إلى هنا؛ ليسهل إسعافك.

لم يعلق بنيامين على كلامه بكلمة، ولكن قال سائلاً: قلتَ: إنَّ أمَّك أم سليم، فهل أنت سليم؟
• سليم أخي الأكبر، أمَّا أنا فسالم.
• أنا بنيامين، تشرفت بمعرفتك، وأشكرك على ما عملت معي.
هنا دخلت أم سليم؛ لتطمئنَّ على ضيفها، فكان أول ما لفت انتباهَ بنيامين فيها هو حجابها، فسعد برُؤيتها، وانشرح صدره، وهو ينظر إليها ويبتسم في وجهها، فقالت أم سليم بلغة عبرية ثقيلة: كيف حالك الآن؟ فرد بنيامين بكلِّ ارتياح عليها: أنا بخير، شكرًا لك على سُؤالك، وشكرًا لك على الطعام اللذيذ، شكرًا لكم جميعًا على ما فعلتموه معي.
• لم نفعلْ إلاَّ واجبنا، وما ينبغي علينا فعله، والمهم أنْ تعودَ إلى أمِّك سالِمًا، فهي الآن من المؤكد قلقة عليك.
• شكرًا لك، سأذهب حالاً، ولكن لا يوجد ما يدعو للقلق، فهي معتادة أن أخرج وأتأخر.
• لا بل الأم تقلق وتشعر بولدها، فأنا لا أسمح لأولادي أن يتأخروا عليَّ دون أن يُطمئنوني، فسكت قليلاً، فقد قرع هذا المعنى قلبَه، وقال: تقلقُ عليَّ! لَمْ أرَ هذا من قبل قطُّ، فتنهد بينه وبين نفسه، فكم تأخرت ولكنها لم تعبأ بتأخُّري، ولم تقل لي: إنَّها قلقت عليَّ ولو لمرة! فانتبه سالم لسكوتِه، فسأله: هل عاد التعبُ مجددًا؟
• لا، لا، بل عليَّ الذهاب؛ لأني تأخرت كما قالت أم سليم.
وفعلاً قام الشابان مع بعضها، فقد أصرَّ سالم على مُرافقته؛ خوفًا من أن يُغمى عليه مَرَّة أخرى وهو يسير منفردًا، وهما في الطريق.
وهما لا يزالان في الحارة العربية شاهدا عائلةً خارجَ بَيْتِها، والشرطة تهدمه، وامرأة تصرُخ، ويظهر من طريقة صراخها أنَّها تشتم وتسب اليهود، فسأل بنيامين سالِمًا عما تقول المرأة وما بها، فضحك سالم بسخرية، وقال: ألاَ تَجد ما بها؟ ألاَ ترى أنَّهم يهدمون بيتَها، ويطردون أهله منه، وهنا جاءت سيارة شرطة وأجبروا العائلة على الصُّعود إليها، وذهبوا بهم، فعاد بنيامين؛ ليسألَ: أين يأخذونهم؟
• يبعدونهم إلى القُدس الشرقية، تعلم اليهودَ وأعمالهم! يريدون أن يُخرجونا جميعًا من بُيوتنا، فقال بنيامين: وأنت كيف عرفتَ ذلك؟ فابتسم سالم، وقال: كيف عرفت؟! عرفتُ - أيها اليهودي - لأنَّهم عرب ومسلمون مثلي، وأعرف أخبارهم، وأعرف مشاكلَهم، لست مثلك لا تعلم عنَّا أيَّ شيء.
فهكذا أنتم - أيُّها اليهود - تأتون إلى أرضنا، ثُم تُعمون أعينَكم عَمَّا نَحن فيه من ظُلْمٍ، واضطهاد، وقتل من أسيادكم، بل وتؤيدونهم عليه؛ لمصلحتكم فقط، ولتعيشوا منعمين، أتظُن أنِّي لَمْ ألحظ بُغضك لنا، حتى إنَّك من كُرهنا لا تعلم معلومةً عَنَّا، حتى تمييز قرآننا لم تقدر عليه، والآن دَعْك من هذا، ولْنمشِ إلى غايتنا، وسيأتي من سينتقم لهؤلاء المظلومين.
فقال بنيامين: أنا أول مرة أرى هذا المشهد، فرد سالم مُتبَسِّمًا: ولكننا نراه يوميًّا، بل كل ساعة، وليس هنا فقط، بل في أنحاء فلسطين، وأنتم لن تَرَوْه، حتى ولو شاهدتموه عَشَرَاتِ الْمَرَّات؛ لأنَّكم لا ترون إلا مَصلحتكم، وما يسعدكم، حتى ولو كان ما يُسعدكم يُؤذي غيرَكم وعلى حسابهم، ويُسبب لَهُم الشَّقاء، وبعد هذا الكلام سكت الاثنان، ولم ينطقا حتى وصلا بيت بنيامين، الذي دخل بيته، وعاد سالم هو الآخر إلى بيته.

يتبع .....................................









عرض البوم صور ابو فتحي   رد مع اقتباس
قديم 05-02-2013, 09:36 PM   المشاركة رقم: 16
المعلومات
الكاتب:
ابومنى
اللقب:
عضو مجتهد
الرتبة


البيانات
التسجيل: Jan 2013
العضوية: 13976
المشاركات: 113 [+]
بمعدل : 0.03 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابومنى غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

لااله الا الله









عرض البوم صور ابومنى   رد مع اقتباس
قديم 17-10-2013, 11:42 AM   المشاركة رقم: 17
المعلومات
الكاتب:
عاشق عيونه
اللقب:
عضو مجتهد
الرتبة


البيانات
التسجيل: Sep 2013
العضوية: 17721
المشاركات: 255 [+]
بمعدل : 0.07 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
عاشق عيونه غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

ياحبيبي كمل القصه جزاك الله كل خير اللهم امين

تقبل مروري
مع تحياتي









عرض البوم صور عاشق عيونه   رد مع اقتباس
قديم 16-11-2013, 02:17 PM   المشاركة رقم: 18
المعلومات
الكاتب:
الذئب الجوال
اللقب:
مشرف منتدى القصص والحكاوي والروايات
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية الذئب الجوال


البيانات
التسجيل: Jun 2013
العضوية: 16279
المشاركات: 1,337 [+]
بمعدل : 0.34 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
الذئب الجوال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

السلام عليكم
نحن في انتضار تكملة القصة
شكرا لك









توقيع : الذئب الجوال

عرض البوم صور الذئب الجوال   رد مع اقتباس
قديم 16-11-2013, 07:17 PM   المشاركة رقم: 19
المعلومات
الكاتب:
ابو الخواطر
اللقب:
عضو ذهبي
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية ابو الخواطر


البيانات
التسجيل: Sep 2013
العضوية: 17683
المشاركات: 3,402 [+]
بمعدل : 0.89 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو الخواطر غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

الوووووووووووووووووووووو بدك تكمل القصة بلاش اكملها انا هسا يلا
انا متابع في انتظار الجزء التالي انشالله









توقيع : ابو الخواطر


قال تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ *
وَلَوْشِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ
عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْتَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )

عرض البوم صور ابو الخواطر   رد مع اقتباس
قديم 17-11-2013, 02:29 AM   المشاركة رقم: 20
المعلومات
الكاتب:
الورد
اللقب:
مدير عام سابق
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية الورد


البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 8519
المشاركات: 2,096 [+]
بمعدل : 0.47 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
الورد غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

ههههههههههههه هاي قصة على الوجع اتخيل ابو فتحي البحيش المشهور لم يتم تتبع امره على البحش ولكن هذه القصة راح تجيبلوا لم شمل ,ولكن ندعوا الله بأن يحفظ اخونا ابو فتحي , كمل يامحترم .............









توقيع : الورد

استمع لتلاوة رائعة من سورة
آل عمران بالضغط على الصورة


عرض البوم صور الورد   رد مع اقتباس
قديم 17-11-2013, 12:03 PM   المشاركة رقم: 21
المعلومات
الكاتب:
ابو الخواطر
اللقب:
عضو ذهبي
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية ابو الخواطر


البيانات
التسجيل: Sep 2013
العضوية: 17683
المشاركات: 3,402 [+]
بمعدل : 0.89 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو الخواطر غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

ههههههههههههه هههههههههه ههههههههههههه
ههههههههههههههههههه
علوجع جابها اخونا الورد
ابو فتحي الله يحفظك ويديم عليك الصحة
كمل القصة رجاء









توقيع : ابو الخواطر


قال تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ *
وَلَوْشِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ
عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْتَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )

عرض البوم صور ابو الخواطر   رد مع اقتباس
قديم 18-11-2013, 05:54 PM   المشاركة رقم: 22
المعلومات
الكاتب:
الذئب الجوال
اللقب:
مشرف منتدى القصص والحكاوي والروايات
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية الذئب الجوال


البيانات
التسجيل: Jun 2013
العضوية: 16279
المشاركات: 1,337 [+]
بمعدل : 0.34 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
الذئب الجوال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

السلام عليكم
ياااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا ابو فتحي ياااااااااااااااااااااااااااااااا اخي
من فضلك اكمل الفصة والله تعبت من الانتضار
ههههههههههههههههههههههه
ان شاء الله المانع خير
شكرا لك
وجزاك الله خيرا









توقيع : الذئب الجوال

عرض البوم صور الذئب الجوال   رد مع اقتباس
قديم 18-11-2013, 05:55 PM   المشاركة رقم: 23
المعلومات
الكاتب:
الذئب الجوال
اللقب:
مشرف منتدى القصص والحكاوي والروايات
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية الذئب الجوال


البيانات
التسجيل: Jun 2013
العضوية: 16279
المشاركات: 1,337 [+]
بمعدل : 0.34 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
الذئب الجوال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

:khafji(11)::khafji(11)::khafji(11)::khafji(11):
:khafji(11)::khafji(11)::khafji(11):
:khafji(11)::khafji(11):
:khafji(11):









توقيع : الذئب الجوال

عرض البوم صور الذئب الجوال   رد مع اقتباس
قديم 18-11-2013, 05:59 PM   المشاركة رقم: 24
المعلومات
الكاتب:
الذئب الجوال
اللقب:
مشرف منتدى القصص والحكاوي والروايات
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية الذئب الجوال


البيانات
التسجيل: Jun 2013
العضوية: 16279
المشاركات: 1,337 [+]
بمعدل : 0.34 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
الذئب الجوال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

:53::53::53::53:









توقيع : الذئب الجوال

عرض البوم صور الذئب الجوال   رد مع اقتباس
قديم 06-12-2013, 08:36 AM   المشاركة رقم: 25
المعلومات
الكاتب:
طفران
اللقب:
عضو مجتهد
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية طفران


البيانات
التسجيل: Jan 2013
العضوية: 13889
المشاركات: 133 [+]
بمعدل : 0.03 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
طفران غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

لك كل المحبه والشكر والاحترام ونرجوا منك اتمام القصه لاننا في غاية الشوق لنهايتها









عرض البوم صور طفران   رد مع اقتباس
قديم 06-12-2013, 05:26 PM   المشاركة رقم: 26
المعلومات
الكاتب:
ابو فتحي
اللقب:
مدير عام سابق
الرتبة


البيانات
التسجيل: Jun 2010
العضوية: 2821
المشاركات: 531 [+]
بمعدل : 0.11 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو فتحي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:
إرسال رسالة عبر Skype إلى ابو فتحي

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

دخل بنيامين البيتَ، فإذا أمه جالسة تسمع بعضَ الأغاني التي تُحِبُّها، فقالت: أهلاً بُنَيَّ، كيف كان يومك، كأنَّك تأخرت قليلاً، فقال بنيامين محدثًا نفسه: تأخرت قليلاً! يعني يا أم سليم، أمي لم تقلق عليَّ.
• لم أفهم ما قلت، ما بِكَ؟ لِمَ لا ترد عليَّ بصوتٍ عالٍ؟
• لا، أقول فقط: ألَم تقلقي عليَّ؛ لتأخري؟
فضحكت، وقالت: أقلق عليك! وما الداعي لذلك؟ كنت في الجامعة وتأخرتَ قليلاً، فما الذي حصل؛ لأقلق؟
• لا، لم يحصل أي شيء، أُغْمِيَ عَلَيَّ فقط، ثُمَّ قَصَّ عليها الخبر، وقال: إنَّ أحد شباب الجامعة أسعفه، وطمأنها على نفسه، ودخل غرفته، ولم يَخْطِر ببالها أنَّ ذلك الشاب مسلم، فهو لَم يقل لها: إنَّه مسلم؛ حتى لا يفتحَ المجالَ لجدالٍ ليس مستعِدًّا له الآن، ثم أمضى باقي ليلته، وهو يُفكر فيما حدث، وكيف أسعفه مسلم، وتركه اليهود، وطريقة استقبال سالم وعائلته له، ومنظر أم سليم الذي شرح صدره، والقرآن الذي أعجبه، وكأنَّه يألفه، ثُمَّ العائلة التي طردها اليهودُ.
واستمر هكذا حتى ضاق صَدرُه، وانزعجَ من كلِّ ما حدث، والتساؤلات التي ليس لها جواب، ثُمَّ غلبه النوم وهو على هذا الكرب، فرأى في نومه تلك المرأة المحجبة، التي يرى النورَ في وجهها، ثُمَّ ابتسمت له، وهنا استيقظَ على ابتسامَتها كعادتِه، وعندما يرى ذاك المنام، يستيقظ مُرتاحًا مُنشرحَ الصدر، ولكنَّه صار أكثرَ شوقًا لمعرفة تلك المرأة، وسِرِّ مَجيئها في نومه، وحتى سر تعلُّقه بها، فقد كان يشتاق لرُؤيتها إن تأخَّرت، ولم تأتِه في منامه، ثُمَّ ترك هذا التفكير، وقام إلى جامعته.
وفي الجامعة بحث بنيامين عن سالم، حتى وجده، ولَمَّا التقى معه شَكَره على كلِّ ما عمل له، وطلب منه أن يكونا زميلين، ولكنَّ سالمًا قال له: إنَّه ليس هناك أيُّ سبب ليكونا زميلين، وإنَّه لا يرغب في التعامُل معه؛ لكونه يهوديًّا ومُحتلاًّ لأرضه، ولكن بنيامين قال له: أنا مُصِرٌّ أن أكونَ زميلاً لك، وألتقي معك دائمًا، وليكن هذا مُجرد تعامُل يفرضه الأمر الواقع، فأنا موجود في القدس كيهودي شئت أم أبيت، وأنت موجود في القدس كمسلم شئت أنا أم أبيت، فرد سالم: وهل هكذا ستتعاملون معنا في المرحلة المُقبلة؟ تفرضون علينا ما تريدون، وعلينا القَبول، كأمرٍ واقع؛ يعني: سياسة الأمر الواقع؟
• كُلُّ شيء تُسَيِّسُونه؟! أنا أَصْدُقك القول في أنِّي أرغبُ في التعامُل مَعَك بعيدًا عن السياسة، وأرغب أنْ تكونَ لِي صديقًا، وليس زميلاً فقط، فأنت عملت معي معروفًا، وأنا لا أنسى المعروف.
• غريب، هل فعلاً لا تنسون المعروف؟! فهذا أول مرة أسمعه.
• لأنِّي يهودي فقط تقول هذا الكلام، ولكنِّي أصدُقك أنِّي دائمًا أُظْلَم من الآخرين لمجرد أنِّي يهودي، ولكن تعاملْ معي، وستُغيِّر رأيَك في اليهود، وتعلم أنَّهم يعترفون بالجميل.
• لو رأيت بعيني لا أصدق، وإن كنتَ تظُن أنِّي حين أسعفتُك صرتَ حبيبًا لي، فهذا ظنٌّ خاطئ، بل أنت يهودي مغتصب، ولن أعاملك إلاَّ على هذا الأساس، أمَّا ما حدث بالأمسِ فانسَه، ذلك أفضل.
• كنت أعرف أنَّكم - أيها المسلمون - قُساة، لا تُحبون أحدًا، ولكن لم أكن أتوقع أنَّكم كذلك إلى هذه الدرجة.
هنا ضحك سالم كثيرًا، ثم قال: هكذا أنتم - أيها اليهود - تجرمون، ثُمَّ تتهمون غَيْرَكم بارتكاب الجريمة، هنا غضب بنيامين وتركه وذهب، فشعر سالم بارتياح أن تَحرَّر من هذا اليهودي، الذي اعتبره يريد فرضَ نفسه عليه.
ولكن بنيامين لم يستسلم، بل على العكس أصبح لديه الفضول؛ ليتعرف أكثرَ على المسلمين نتيجةَ كل ما حدث معه، وخاصَّة أنَّه أحيانًا يظهر بقلة اطلاعه، فهو لم يُميِّز صوتَ قرآن المسلمين، وظهر بموقفٍ لا يُحسد عليه أمام سالم، مع أنَّه يفترض أنَّه صحفي، وعليه الإلمام بكثير من المعلومات، خاصَّة عن أعدائه المسلمين، الذين يرى أن عيشَهم مع اليهود شيءٌ حتمي.
وصار يلوم نفسَه؛ لكونه ابتعدَ كل البُعد عن معرفة المسلمين؛ بسبب كرهه القديم لهم، فهذا كان غيرَ مُبرر بالنسبة له؛ ليجهلَ حقيقتهم؛ ولذلك جاء بعد عِدَّة أيام، وجلس بجانب سالم دون أن يستأذنه كالمرة الأولى بأن يكون له صاحبًا، بل على العكس بدأ يتكلم معه، ويفرض نفسه عليه؛ لعَلَّه يأتي اليوم الذي يتقبله فيه، ويجعله صديقًا له، وبدأ يكلمه عن الجامعة، وعن دروسه، وعن حبه للصحافة، وسالم يسمع من غير أنْ يتكلمَ إلاَّ ببعض الأجوبة، التي يضطر إليها، وفي النهاية التفت سالم إليه، وقال: وماذا بعد كل هذا الكلام؟ وما سبب حديثك معي عن كل ما قلت؟ وما الذي تريده؟
• إلى ذلك الحد كلامي بغيض إليك؟ ما الذي عملتُه لك، فأنا زميل لك وأرغب بالحديث معك؟
• ما يثيرني هو ما هدفك؟ وما الذي تريد مني؟ عجيب أمركم - أيُّها اليهود - حتى إنَّكم تريدون أن تفرضوا علينا أنْ نتكلمَ معكم، ونصاحبكم، أم يوجد هناك مَن هو وراءك، وتخططون لشيء؟
فَهِمَ بنيامين تَخوُّف سالم، ولكنه في الوقت نفسه انزعج، فهو يشعر بالقيد، فكونه يهوديًّا هذا يعني أن لا يثقَ به مُطلقًا، وهذا ما لحظه في تعامُله مع ماري، والآن مع سالم، وحتى من معرفته باليهود، فهو مُقتنع بأن اليهودَ ليس من مصلحة أحد أن يُصاحِبَهم؛ لأنَّهم لديهم أثمانٌ للمصاحبة، ولا يمكن الوثوق بهم، وبعد كل هذا التفكير قال لسالم: أنا لا أفهم لِمَ كل هذه التساؤلات؟ ولِمَ هذه الشكوك، وكل ما عملته أني تعرفت على شخص وَثِقْت به، وأردت مصاحبته؟ فهل هذا منبوذ إلى هذا الحد؟ ثم لماذا تعتقدون أن وراء كل عمل شيئًا مخفِيًّا؟
• لأنَّه هو فعلاً وراءَ كلِّ عمل تعملونه شيءٌ مخفي، ثُمَّ أتعرف ما المنبوذ عندنا؟ هو طريقة تعامُلكم، وخبثكم، ومُحاولتكم السيطرة، وفرض أنفسكم بأي طريقة، المهم مصلحتكم، وتأتون بخبث ودهاء، وليس بصراحة ووضوح لأهدافكم، فأنا سأُرضِيك بعرضٍ أعرضه عليك، فهل أنت جاهز؟
ولكن بنيامين شرد قبل أن يُجيبه، وصار يفكر في كلام سالم، ويحدث نفسه: ماذا يا بنيامين، فهؤلاء المسلمون يعرفون اليهودَ، فها هو يصفنا كما نحن، فهكذا فعلاً اليهود بعد أن عاشرتهم بشتى شرائحهم، فلِمَ أنت لا تعرف المسلمين يا بنيامين؟
ولكن سالم قطع سلسلةَ أفكاره وصاح: هل أنت غير جاهز؟ أراك لا ترد.
• بل أنا جاهز، قل ما عندك.
• أنا أوافق على التعامُل معك، وطبعًا ليس كصديق، فهذا من المستحيل، ولكن كما قلت كزميلين، وإن وجد لفظٌ أبعد، فأنا معه، فأنتم حتى كزملاء لا نرغب بكم.
• أرجوك، أنا لا أسمح لك بإهانتي، فأنت تتعدى حدودك.
• أنا لم أجبرك على التعامُل معي ولكن ما دُمتَ تريد، وأنت مَن تلح، فتحمَّل، وشَرطي هو... أنا أوافق على ذلك إن لم تأتِني بهذه الطريقة الخبيثة، وسياسة الأمر الواقع، وأن تقول لي بصراحة: ماذا تسعى له بتعامُلك معي؟ وما أهدافك؟ فأنا إلى الآن لم أفهمْ إصرارَك على ذلك.
• وإن قلت لك، فما يبين لك أنِّي صادق؟
• شيء سهل، فالصِّدق مكشوف مَعروف، والكذب كذلك، فأحذرك من التلاعب.
• سأقول لك، وبكُلِّ صراحة وعليك تصديقي؛ لأنَّ هذا هدفي، ولم أكن أود أن أخبرَك به، ولكن قدرت تخوفك... هدفي الأول: أن أعرفَكم، وأعرف كل أمر عنكم.
• من تقصد؟
• المسلمين، فأنت شاهدتني، وكيف لَمْ أميِّز قرآنَكم، والذي ينبغي أن أكونَ قد سمعته كثيرًا، خاصَّة أن لي حوالي السنتين هنا.
• وبعدها.
• وما تقصد ببعدها؟
• وبعد تعرُّفك على المسلمين، ماذا ستعمل؟ هل ستُسخِّر قلمك ضِدَّ الإسلام؟
• هذا ليس من صلاحيتك، أنت طلبتَ مني معرفةَ هدفي، وأنا أجبتُك، ولن أسمحَ لك بعدها بالتدخُّل في شأني.
• وهل أعطيك مادتك جاهزة؛ لتجعلَها طريقَك للنَّجاح عن طريق شتائمك للإسلام.
• إن كان دينكم سِرًّا، فلا تكشفه لي، وإن لم يكن سِرًّا، فأنا من اليوم صار هذا الهدف هدفي، وسأبحث وأعرف كلَّ ما أريده عن دينكم.
• أمَّا عن ديني، فأكيد ليس فيه شعيرةٌ واحدةٌ هي سِرًّا لا نكشفه، بل على العكس، فإنَّ شريعتنا من أوضحِ الشرائع، ولن تَجِدَ دينًا يكشف عن تعاليمه بكل وضوح أكثرَ من الإسلام، ولكن هل تقصد بهدفِك سَبَّ ديننا؟
• بل هدفي كما قلت لك: معرفته، وأمَّا هل سأعلق عليه أو لا؟ فهذا اتركْه للأيام تقرِّر ماذا سأفعل؟ ثُمَّ لِمَ أنت خائف، فأنا لَم أصبح صحفيًّا بعدُ، ولم أجرب الكتابةَ في الصُّحف؟
• خائف! يا لَلعجب، وممن أخاف؟ وعلى ماذا أخاف؟ أخاف منك، وعلى ديني؟! إذًا فالآن آمنت بأنَّك فعلاً لا تعلم شيئًا عن ديننا، ولو عرفته لعلمتَ أنه أكبر من أن يتأثر بنقد هنا أو شتم هناك.
• إلى هذا الحد تَثِقُ بقوة دينك، هذا يُثير فُضولي، وأرغب في التحدي؛ ليأتي اليوم الذي أنتصر عليك فيه، وأوصِّل لك رسالةً غير ما تنطق به، وهي أن دينك ليس قويًّا بهذه الصورة التي تتوهم.
• يا لخبثك، هل بتصوُّرك أنْ تناقشني، ثم تنتصر، ثم أتأثر بفصاحَتِك وحُجَّتِك، وأصبح يهوديًّا والعياذ بالله؟! عندها سأبصم لك بجنونك إن ظننت هذا.
• هل تستعيذ بالله من أنْ تكونَ يهوديًّا، أولهذا الحد تكره اليهودية؟
• أنا لا أكره اليهوديةَ؛ لأنَّها دين سماوي، ولكني أكره مَن حَرَّفها، وصار يُمثلها شَرَّ تمثيل.
• بدأتَ تُغيظني بكلامك؛ ولذا فالآن هدفي أنْ أعلمَ هل ستجيبني عن أسئلتي؟ وهل وافقت بتعريفي بدينكم؟ وقد نفذت شرطك، وقلت لك عن هدفي.
• نعم، قبلت، ولكن لن نبدأَ اليوم، فأنا على عَجَلة من أمري، فمحاضرتي اقترب موعدُها، إضافةً إلى أنِّي أريد قبل أنْ أبدأَ معك أن أستخير، فربَّما غوصي معك وجدلي لا يرضاه الله.
• وماذا يعني أن تستخير؟
• يعني أطلب من الله أن يَختار لي الخير في التعامُل معك من عدمه.
• وهل يرد إلهك عليك، ويقول لك: عرّفه الإسلام، أو لا تعرفه؟!
• طبعًا لا، والطفل الصَّغير يعلم ذلك "قالها استهزاءً"، ولكني أدعو اللهَ، وما يُيسِّره لي أومِن أنَّه الخير، ولكن أترى كم ديننا جميل؟! فأنت لا تعلم الغيبَ، ولا تعلم أين الخير، فدلك الله على هذا الدُّعاء ليكون معك بعده، وييسر لك الخير، ثُمَّ نظر إلى بنيامين مبتسمًا، وقال: هكذا تعلمتَ عن الإسلامِ أمرًا، ولعله توفيق من الله أن تكونَ الاستخارة هي المعلومة الأولى، والآن أنا أضطر للانصراف، فلدي محاضرة.
• شيء غريب أن تطلبَ من أحدٍ أن يختار لك ما تعمل، أليس ذلك مقيدًا للحرية؟ وعلى كُلٍّ لن أؤخرك، ولكن متى اللقاء القادم؟
• يا بنيامين، إذا آمنت أن الله يعلم الغيبَ، وهو على كل شيء قدير، وله الكمال في كل شيء، والخير كله منه، عندها ستكون الاستخارةُ هي راحتك، وتكون عبوديتك له عِزًّا لك، أما بالنسبة للقاء الآخر، فمتى أحببت، والآن عن إذنك.
• مع السلامة.
كانت هذه الجلسة هي بداية معرفة بنيامين بالإسلام، وبداية قربه من سالم، وصارت اللِّقاءات بينهما بشكلٍ مُستمر لا يكادان يغيبان عن بعضهما أكثر من يومين، أمَّا عن اللقاء الأول بعد جلستهما هذه، فقد كان سؤال سالم لبنيامين بداية عن بلده الأصلي، ولما علم أن بلدَه هي أمريكا، استغرب غايةَ الاستغراب، وقال له: إنَّه لم يكن يتوقع قطُّ أن يكونَ أمريكيًّا، فسأله بنيامين عن توقُّعه، فرد سالم بأنَّه كان يظنه يهوديًّا شرقِيًّا.
هنا استغرب بنيامين كلامَه، خاصَّة أنه سمع هذه الكلمة من قبل من أخته سارة، قبل أن يعرفَ أنَّها أخته، والتي قالت له يومًا: إنَّها معجبة بشكلِه، الذي يشبه شبابَ المشرق؛ ولذا سأل سالِمًا عن سبب توقُّعه الغريب هذا، فرد سالم عليه بأنَّه من الطبيعي أن يظن من يراه هذا؛ لأنه يشبه الشرقيِّين، وقال له: إنَّه كان يظن أنه يهودي عربي أو تركي، وأنه لم يستبعد هذا التوقُّع إلاَّ بعد معرفته بجهله للإسلام والمسلمين.
هنا استغرب بنيامين كلامَه، ولكنه سكت؛ لأنَّه لم يعرفْ ما الذي سيرده؛ ولذا تابع سالِمٌ كلامَه، وقال: والآن دعنا من الأشكال، ولأسألك بداية: ما الذي تعرفه عن الإسلام؛ لتسهلَ عَلَيَّ ما الذي سأُطْلِعُك عليه؟ فرد بنيامين بارتباك، فهذا أصعب سؤال يواجهه؛ لأنَّه لا يعلم الكثير، وقال: ... قلت لك: أنا لا أعرفُ الكثير، فمثلاً أعلمُ اسمَ كتابكم، واسم نبيكم، وعندكم صلاة، وشهر تصومونه... وهناك معلومات رُبَّما تزعجك؛ ولذا سأؤجل قولها.
• لا... لا تُؤجل شيئًا، فنحن معتادون على إثارةِ الشبهات من جميع المستشرقين، وكثير من الغربيِّين، فقل ما شئت، ولكن سأقول لك صراحة شيئًا نسيت أن أذكره في البداية هو: أنَّني سأُطْلِعك على ما أعلم، فأنا لست عالِمًا؛ ولذا ستكون معلوماتي على حسب علمي؛ ولذا عليك أنْ تفهم شيئًا، وهو أني عندما تسألني عن شيء لا أعلمه أو شبهة لا أقدر على الردِّ عليها، فهذا جهل مني، وليس عيبًا في الإسلام.
• أرى أنَّك تُحب دينك كثيرًا، وتقدم له العذر من البداية.
• لا، ما قلته ليس عذرًا عن الإسلام، ولكن هذه هي الحقيقة، فهل تعلم أنت كل شيء عن اليهودية؟ وهكذا أنا، وهذا لا يعني أنِّي أجهل ديني، بل على العكس، فأنا أعلم كُلَّ ما ينبغي لي أنْ أعلمه، ولكنَّ الأمور الكبرى هي ما أقصد، والآن: ما الذي تعلمه، وتخشى أن يزعجني؟
• مثلاً... المرأة، ولكن وقبل أن يكمل كلامَه تبسَّم سالم ابتسامةً لَم تعجب بنيامين؛ ولذا سأله: ما الذي يَجعلك تبتسم، هل قلت ما يُضحك؟
• لا، لا، ولكن تبسمت؛ لأَنَّ شبهتك هذه أصبحت معروفة، ودائمًا أكثر الشبهات التي تثار هي عن المرأة وظلمها، ولكن أرجو أن تكمل.
• ولِمَ لا تقول: إنَّكم تعرفونها؛ لأنَّكم فعلاً كذلك، تظلمونها، وتحتجزون حريتها، وتَمنعونها من العلم، وسمعتُ مَرَّة أنَّ الرجُلَ عندكم له أنْ يتزوجَ عدة مرات، أليس هذا ظلمًا للمرأة، وجرحًا لكرامتها، وأخذًا لحقوقها، إضافة طبعًا لإلزامها الحجاب؟! فمِنْ ناحيةٍ هو يُتعبها صيفًا، ويسبب لها الضيقَ؛ لارتفاع درجات الحرارة، ويقيد تحركاتِها، ومن ناحية أخرى، فهو يحرمها من إظهار جمالِها، وزينتها، وإحساسها بالأنوثة، وأمور أخرى كثيرة، مثل: حرمانها من إعطاء رأيها، وعدم السماح لها بالعمل، وغير ذلك كثير.
• نعم، فعلاً وغير ذلك كثير مما تُكيلونه من الاتِّهامات ظُلمًا وعدوانًا للإسلام وللعرب، ولكن طبعًا أنا مُهمتي أن أُطلعَك على الإسلام، وليست مهمتي أن أردَّ على الشبهات؛ يعني: أنا عَلَيَّ فقط أن أعرفَك على الإسلام بشكلٍ تقليدي.
ولكن لا مانعَ من أن أناقشَك قليلاً بما أعلم، ولأسألك سؤالاً وأنت عشت بأمريكا، وعشت هنا، وتعرف الغربيِّين واليهود... هل من الممكن أن تذكر لي كم عشيقة للأمريكي أو لليهودي؟ وتذكر كم عشيقًا للأمريكية أو اليهودية؟ وحتى إن لم تُجِب، فأنت أعلم مني بهذا الأمر، وإن لم يفهم بنيامين سببَ سؤاله، ولكن مباشرة تذكَّر أباه وأمَّه، فهما أقربُ مثالٍ له، وبَقِيَ يفكر فيهما زمنًا، ولأنه أطال التفكير سأله سالم: أليس لديك جواب؟ ألهذا الحد الرقم كبير، ولا تقدر أن تستوعبه؟
• بل أتساءل: ما هدفك من السؤال، وافرض أنَّ هناك لكلٍّ منهما عشيقًا، ما يضرك أنت؟
• تبسَّم سالم، ثم قال: ما يضرُّني إن كان لكل واحد منكم عشيقة وصاحبة، إذًا وأنتم ما يضرُّكم إن تزوج الرجل من أربعٍ بطريقة شرعِيَّة مُشرّفة أمامَ كل الناس؟ فما هذه الازدواجية في المعايير عندكم؟! تُحِلُّون لكم أن يكون للرجل عدة صاحبات، وللمرأة عدة أصحاب، وتُحلون خيانةَ الأزواج، ولَمَّا يتزوج المسلم زواجًا شرعِيًّا، بمعرفة زوجته، وبإعطائها كاملَ حقوقها، وإن لم يفعل يتوعَّده الله بالعقاب - تكيلون له الاتهامات، فأيُّ حكم حكمكم؟ وأيُّ حقوق تعطونها للمرأة؟ لِمَ تسمحون بكل هذا الشذوذ؟
• وهل ما قلته مبرر؟ فالعشيقة يومًا أو يومين، وتذهب ولكنَّ الزوجةَ لا تذهب، بل تبقى وتأخذ حَقَّ الزوجة الأولى، هذا إن كانتا اثنتين، فما بالك بأربع؟
• صحيح يومًا أو يومين وتذهب، ولكن يأتي غيرها وغيرها، والحكاية لا تنتهي، وتبقى الزَّوجة مُهانة دائمًا، ورُبَّما هناك مَن تذهب، ولكن هناك مَن تَحمل وتُنجب ولدًا غَيْرَ شرعِيٍّ، فيخرج بلا أبٍ ولا مُنْفِق، ولا مربٍّ، فينشأ ناقمًا على مُجتمعه، كارهًا له، ويكون مُهَيَّأ للجريمة بكُلِّ سهولة.
فيا سيد بنيامين، لو فكَّرْتَ بشفافية ومِصداقية، ستعلم أنَّ أعمالَكم ونتائِجَها السلبية لا تنتهي، وستعلم أنَّ المسلمَ لو تزوَّج بأربعٍ، وأنجبن له عشرين ولدًا لا يتخلى عن واحدٍ منهم، ولو قُطِّع أو مات جوعًا.
وهنا تذكر بنيامين سارة المظلومة، وبَقِيَ سالِمٌ يتكلم: وأمَّا عن الشبهات الأخرى، فقِسْ على ما قلتُه، فأنتم مثلاً تتخَلَّون عن البنت إن أتَمَّت الثامنة عشرة، أمَّا نَحن فهي في رقبتنا ما دامت على قيدِ الحياة، حتى وإن تزوَّجت، والأم التي ترمونها في مأوى العَجَزة بمجرد أنَّها لم تَعُد تنجز، وعجزت، فنحن نَبْقَى نقبِّل أرجلَها، حتى ولو أصبحت جسدًا لا حَرَاكَ بِه إلاَّ نَفَسٌ يخرج ويدخل، وأَمَّا عن النساء بشكل عام، فكنَّ هنَّ آخر وصية لنبينا r حينَ استوصى بهنَّ خيرًا، فيا سيد بنيامين، شبهاتكم معروفة، والردود عليها بأسهلِ العبارات.
• على كلٍّ، هذه قناعاتكم، والمهم أنِّي عرفت شيئًا جديدًا عن دينكم، والآن أستأذن، فمُحاضرتي ستبدأ بعد لحظاتٍ، أراك لاحِقًا، وذهب؛ لأنَّه لم يَعُد يَحتمل الكلامَ وهو يفكر في سارة، التي ماتت منذ فترة بسيطة، وكانت ثَمَرة ونتيجة الانحلال الخلقي عند اليهود.
عاد بنيامين إلى بيته، ونظر إلى والديه وهم يتناولان معه طعامَ الغداء، فانتبه إلى لونهما الأشقر، وهو صاحب اللون القمحي، ولأول مرة رأى أنَّه لا يُشبههما، وأنَّه بعيدٌ كُلَّ البُعد عنهما، فسأل والدته عن سبب ذلك، وقال لها: إنَّ الكثير من زملائه يُشبهونه بالعرب وهذا يزعجه، فصُعِقَت بهذا السؤال، ولم تعرفْ ماذا ترد؟ ولكنَّها تداركت الموقفَ الذي يُجبرها لأَنْ تجد حلاًّ لهذا اللُّغز، فقالت مباشرة وبخبثها المعهود: وما الذي يَمنع ذلك؟ فليس من الضروري أن يشبهَ الابنُ والديه، ثم تابعت قائلة: وأظن - يا بني - أن سببَ لونك المختلف هو إحدى جَدَّات والدك، التي تزوجها أحدُ أجدادك من اليهوديَّات العربِيَّات، وتعلم أن الجينات الوراثية تبقى لأجيالٍ، وهي تظهر على الأبناء، فلا تبتئس بأقوالِهم، فأنت ربَّما تشبه إحدَى جَدَّاتك، وفعلاً مَرَّت على بنيامين، واقتنع بها، حتى إنَّه ذكرها لسالم في إحدى الجلسات، وكأنه أراد تبرير شبهه بالعرب؛ لأنه يعده كالذنب الذي يخجل منه الشخص.
ولَمَّا انفرد أفخاي بإلين، ضَحِكَ وضحك حتى كاد ينفجر، ولَمَّا سألته عن سبب كل هذا الضحك، أجابها وقال: يا لك من خبيثة! فكيف وجدتِ هذا المبرر الغريب، والذي لا يُمكن أن يَخطِر ببالِ أحد، ولكن أيعقل أن لي جدة عربية؟! ولِمَ لَمْ تكن جدتكِ أنت؟ فردت عليه بكِبْر قائلة: طبعًا عليَّ أن أكون ذكية؛ لأخرجَ من كل هذه التساؤلات، التي يأتي بها ولدك كُلَّ يوم؟
وما يضرك إن كانت جدتك عربية؟ أتعرف أنا ربَّما أتوقع هذا فعلاً، فأنت مُزعِج ومُبغِض كالعرب، فرد عليها دون اهتمام وقال: دَعْكِ من هذا الهُراء، وظلي متيقظة لابنك المصيبة التي أَبْلَيْتِنا بها، وسيأتي اليومُ الذي تندمين فيه على تربيتك له، فما الذي اضطرنا لأن نَجلب هذا المسلم البغيض؛ لنُنفق عليه المال، ونُبْتلى به، ومِن ثَمَّ رُبَّما يأتي اليومُ، الذي يعود فيه إلى أصلِه، ولا نستفيد منه شيئًا، وهنا غضبت إلين غضبًا شديدًا، وصرخت في وجه زوجها: اخرس كُفَّ عن هذا الهُراء، فبنيامين ابننا، وهو يَهودِيٌّ، وسيبقى يهوديًّا، أنت فعلاً معتوه، ولكنَّ أفخاي لم يتركها تُكمِل صراخها، بل تركها وذهب.
كان من الطبيعي أنْ يكونَ سؤالُ بنيامين الأول لسالم في لقائهما الجديد عن أهمِّ شيء يُميز الإسلام كدين، أو المسلمين كأشخاص، فكان الردُّ سهلاً بالنسبة لسالم؛ لأنَّ سببَ تَميز المسلمين شيءٌ معروف وبَدَهِيٌّ لكل مسلم؛ ولذا كان رده: طبعًا ما يميز الإسلامَ شيءٌ واحد، وهو أهم ركن في الدين الإسلامي وهو الوحدانية، فتوحيد الله - عزَّ وجلَّ - وإفراده بالعبودية والألوهية والطاعة شيء أساسي وضروري لِأَنْ يكونَ الشخص مُسلمًا.
• ولكن الوحدانية هي عند كثير من الطوائف، وليست مقصورة على المسلمين فقط.
• لا، أنت تظُن ذلك، ولكن إن تعرفت جيدًا على توحيد المسلم لربِّه، لعلمت أنَّنا نتميز عن غيرنا بحقيقته فعلاً.
• إذًا هل من الممكن أن تشرحَ لي أكثر؟
• بالتأكيد ممكن، فنحن المسلمين نفرد الله - تعالى - بكُلِّ عباداتنا وشعائرنا، ولا نشرك في إخلاصنا بهذه العبادات مع الله شيئًا، حتى نبينا r ولا نقرِّب أيَّ قربان لشخصه - عليه الصلاة والسلام - ولا حتى بالدعاء، فدعاؤنا هو لله وحدَه، ولا نطلب العونَ من أحدٍ إلا الله.
• ولكن لا يُمكن لأيِّ إنسان أنْ يعيشَ دون مَعونة الآخرين.
• نعم، وهذا نعمله، ونطلب الخدمات والمعونات ممن حولنا، ولكن مع قناعتنا أنَّ هذه أسباب وسنن وضعها الله؛ ليتعايشَ بنو آدم مع بَعضِهم، ولكن في النهاية نُرجِع التوفيقَ لله وحْدَه، فأنا أطلبُ منك مساعدةً، ولكن مُجرَّد مساعدتك هي لأَنَّ الله وَفَّقني ووفَّقك؛ لتساعدني وإلاَّ فأنت سبب لا أكثر.
• ولكن ما الفرقُ بيننا وبينكم، فكلنا نُؤمِن بالله؟ فلماذا تعدُّون أنفسكم أنتم من يعبد الله حَقَّ العبادة؟
• صحيح أنَّ البشر جميعهم يؤمنون بالله، وهذا أمر طبيعي، ولكن ما الفرق بيننا، وبين كل هؤلاء؟ الفرق بسيط، فبالتأكيد لا يوجد أحدٌ إلاَّ ويؤمن بأنَّ الله هو الخالق والقادر والعليم، وغير ذلك من الصِّفات التي لا يُنكرها إلاَّ الْمُلحد، ولكن هل هؤلاء يخلصون العبادة لله، ويؤمنون به الإله الواحد المعبود؟ لا يا بنيامين، فجميعكم تشركون في العبادة بآلهة أخرى مع الله، فمنهم مَن يَجعل لله الولد، ومنهم من يُشرك معه المخلوقات، ولكن نَحن نتشدد في هذا الأمر غايةَ التشديد؛ لأنَّه هو الفاصل عندنا بين المسلم وغير المسلم، حتى إنَّنا لا نذبح لغيرِ الله، ولا ندعو - كما قلت لك - إلا الله.
• ولكن لِمَ كل هذا؟ ألاَ يكفي أن تكونَ مُؤمنًا بالله، وتُرجع القُدرة له؟ وحتى مَن تسميهم شركاء، فهم يعبدون لأجل التقرُّب لله.
• نحن علاقتنا بالله أسهلُ، ونؤمن بأنه قريب معنا في كُلِّ زمان، ويرانا في كل مكان، فهذا يَجعل تعامُلك مع إلهك أسهلَ، فلا نَجعل بيننا وبينه واسطة؛ لأننا نؤمن بقُربه وبسَماعه لنا، وبعونه لكل مَنِ استعان به، فأنت لِمَ تستسهل وجودَ الشركاء وكأنك تأتي إلى مهندس عبقري صَمَّم بناءً بأبهى صورة، ولَمَّا أردت تكريمه، شكرتَه وشكرت أناسًا لم يشتركوا معه في تصميم أيِّ شيء، فكم تكون بهذا بخستَ حَقَّه!
وكذلك الله - وله المثل الأعلى - فهو خلق السمواتِ والأرضَ وما فيهن، وكذلك خلقك في بطنِ أُمِّك، وحفظك في كل لحظة، فلِمَ لا تتخيل هذا الأمر؟ وأنت أكيد شاهدتَ حواملَ، فهل من السهلِ تَقبُّل وجود الجنين لتسعةِ أشهر، ويتطور كلَّ يوم من نطفة بسيطة إلى أن يكونَ بشرًا كاملاً ساعةَ ولادته، كيف يبقى؟ وكيف يكبر؟ وكيف يتغذى؟
كل هذه أسئلة تكاد تُجِنُّ، وأنت تفكِّر فيها، لولا معرفتك بالله - تعالى - الذي بيده كل هذه القدرات، وبعدها نشرك به في العبادة، وأنت تقول وببساطة: إنَّ الشركاءَ يقربوننا من الله، ولكنَّ بنيامين ظل ساكتًا، ونظر له سالِم، وإذا بالدموع على خَدِّه، فلم يعلق سالم على هذا المنظر، وأظهر عدمَ انتباهِه لبُكاء بنيامين، الذي طلب الإذنَ من سالم؛ لأنَّه مُضطر لأَنْ يقطعَ الجلسة، ويعود لبيته، ولكنَّ هذا الأمرَ لم يؤثر كثيرًا في سالم؛ لأنَّه لا يتصور ولو للحظة أنَّ كلامه يُمكن أن يؤثر ببنيامين؛ ليغير دينه؛ لأسبابٍ كثيرة، منها: كرهه لكل يهودي مُحتل، وبنيامين منهم.
ولأنَّ قناعته أنَّ بنيامين لديه هدف معرفة الدين؛ للاطلاع فقط، فأقصى ما يَحلُم به سالم أنْ يكسبَ بنيامين كناشط سلام لا أكثر؛ لأنَّ ناشطي السلام موجودون بين اليهود، فهو يعتقد إنْ أخرجَ يهوديًّا واحدًا من دائرة العداء للفلسطينيِّين، فقد انتصر؛ لأنه لا يأمُل باليهودي أكثرَ من ذلك.
وأمَّا بنيامين فلم يحضر المحاضرة المتبقية، وعاد إلى بيته، ولَمَّا سألته أمه عن سببِ عَودته المبكرة، أجابَها بأنه يَحتاج إلى النومِ؛ ولذلك أتى مُبكرًا، الأمر الذي أقنع الأمَّ، فتركته لينام، فدخل بنيامين لغُرفته، وكلام سالم يتردَّد في نفسه، والسموات والأرض وقدرة الله في خلق وحفظ الجنين أثَّرت جِدًّا في قلب بنيامين.
ولكنَّه في النهاية بَرَّر لنفسه هذا التأثُّر بأنَّه هو كيَهودي يُؤمن بقُدرة الله، فليس غريبًا أنْ يتأثرَ بكلام سالم، ولكنه لم يكتفِ بذلك التبرير، بل اتَّهم سالِمًا بأنه قصد أنْ يتكلمَ عن أمور بديهية، وقدرات لا يعترض عليها للخالق؛ ليجره إلى صفِّه، وهنا ارتاح بنيامين لهذا التبرير؛ حتى لا يكون النصر لسالم عليه.
واستمرت هذه اللقاءات بين الشابين، وكَلَّم سالم بنيامين عن كلِّ ما يتصف به الإسلام، وكان يركز على أكثر ما يهتم به الدين، ألاَ وهو الوحدانية والأخلاق، وصفات المسلم، وفي رحمته، ورأفته، وإغاثته للضعيف، وكل هذا الكلام كان ينقش في قلب بنيامين؛ بحجة أنه يُحب الاطلاع على ذلك الدين، لا لأنه تأثر بشمولية هذا الدين ورحمته.
وفي يوم أتى إلى سالم وهو يستعدُّ للعودة إلى بيته، ومباشرة اعتذر سالم لبنيامين، وقال له: إنَّه يريد العودة للبيت؛ ولذا لا يقدر أنْ يكلمَه الآن، ولكنَّ بنيامين قال له: ولذا أتيت في هذا الوقت، فأنا أرغب بأنْ أذهبَ معك؛ لتناول طعام الغداء معك، وعذرًا لهذا التطفل.
ولكنْ أستغِلُّ ما كلمتني عنه من كَرمِكم - أيها المسلمون - ولكنَّ هذا الكلامَ فاجأ سالِمًا كثيرًا، وصار يُكلم نفسَه: يا لهذا اليهودي البغيض، لِمَ يفرض نفسَه عليَّ هكذا؟! وهو إضافة إلى ذلك يسخر من كرم المسلمين، ثم كيف سأظهرُ أمامَ أهلي وجيراني عندما يعرفون أنِّي دعوت يهوديًّا إلى بيتي، ولكنَّ بنيامين قطع تفكيرَه، وقال: ألهذا الحد يَحتاج الكريم؛ ليوافقَ على استقبال ضَيفه؟
وهنا لم يقدر سالم أنْ يُخبئ غيظَه، فقال بانزعاج: أراك تسخر من المسلمين وكرمهم، وتُكرِّر ذلك، فدهش بنيامين، وقال: أسخر منك، ولِمَ ظننتَ ذلك؟ بل والله لم أقصد إلاَّ المزاح، ولكني ما دمت أزعجتك، فأنا آسف، ولن أكرر دعوةَ نفسي أبدًا، فشعر سالم بصدقه؛ ولذا قال: لا عليكَ، ولكن هُيِّئ لي أنك تسخر، ولكن انسَ الأمر، ولنذهب إلى البيت.
وفي الطريق إلى بيت سالم بدأت التساؤلاتُ تَهجم على بنيامين، وما الذي يريده من بيتِ سالم، فلا يوجد أيُّ مبرر لذَهابه، فلقاء سالم يتوفر له دائمًا، ويسأله عن كلِّ ما يريد وهو داخل الجامعة، فما الذي يحتاجه من هناك، خاصَّة أنه شعر بنفسه، وكأنه يُجذَب جذبًا إلى هناك، وكأنَّ حاجةً تنقصه ويشعر بارتياح، كلما اقترب من البيت، وكأن هذه الحاجة باتت قريبةً جِدًّا، وهو يتساءل كل هذه الأسئلة تذكَّر القرآنَ الذي سَمِعه، وكم هو جميل! وكاد يجن من هذا التفكير، أيعقل أنِّي ذاهب؛ لأسمعَ كتابَهم المقدس، ولكن وصولهم إلى البيت كان بمثابة رحمةٍ له؛ لينتهي من تفكيره، خاصَّة أن سالمًا لم يكن يكلمه، وكأنه تضايق من مَجيئه؛ ولذلك لم يكن قادرًا على الكلام.
انزعجت أمُّ سليم من صُحبة ابنها لهذا اليهودي، ومَجيئه لبيتها، ولكنَّ سالِمًا شرح لها الموقف بسرعة، فاضطرت أن تتقبل الأمر، فوضعت لهما الطعام، وضيفت الضيف بكل ما لديها من ضيافة، وبدأ الشابان يتكلمان بموضوعهما نفسه، ولكنَّ بنيامين لم يكن مرتاحًا، وكأن هناك شيئًا ينقصه، فإلى الآن لم تشغل أم سليم القرآنَ؛ ولذا أحس بنيامين بظَمَأ لم يشعر به من قبلُ، وكأنه تذوَّق مشروبًا لذيذًا، ثُمَّ حُرِمَ منه.
وفي ظل هذا الظمأ كله إذا بصوتِ القرآن يصدح بكلِّ جمال في أنحاء البيت، فانشرح صدرُ بنيامين، وسُرَّت نفسه، وطلب من سالم أن يأتِيَ له بماء؛ لعله يتأخر قليلاً؛ ليتمكن من أن يُمتع نفسَه ولو لثوانٍ بهذا الكلام، وبهذه القراءة، التي أخذت لُبَّه، ولما عاد سالم وبيده الماء، سمع أهلُ البيت استغاثةً تأتي من الجيران، فذُعِرَ الجميع؛ لعظم الاستغاثة، فخرجوا يتراكضون؛ لينظروا ما الخبر؟ وخرج بنيامين لحب الاطلاع فقط، فإذا ببيت جارهم أبي أحمد يَحترق، والنار تأكل كل ما تأتي عليه، وأبو أحمد يصرخ: الأولاد، الأولاد، فقام جميعُ رجالِ ونساءِ الحي العربي بإطفاء الحريق شيئًا فشيئًا.
ولكنَّ أكثرَ ما كان يُخيف الناس هو احتجاز ولدين لأبي أحمد في الدار والنار تشتعل فيها، فقذف سالم بنفسِه وسطَ هذه النيران مُحاولاً اتِّقاءَها بقدر الإمكان، وسحب الولدين اللذين كانا في داخل الدار في منطقة لم تكُن وصلتها النيران، ونظر وإذا بحائطٍ قصير في الجانب الآخر يستطيع الهروبَ منه هو والأولاد دون أن يقتربا من النار، خاصَّة أن النار بدأت تَخمد؛ بسبب جهد الجيران جميعهم بالإخماد، فألقى بنفسه هو والولدان من على الحائط، ولَمْ ينتبه الأهلُ إلاَّ والولدان يصرخان لوالديهما، وهما يأتيان من الطرف الآخر من الدار، فكانت سعادة الوالدين بنجاة ابنيهما لا تُقدَّر بثمن.
وأكمل الناسُ إخمادَ النيران، وشكرت العائلةُ سالِمًا على معروفه الذي لن ينسَوْه أبدًا، وكل هذه الأحداث تجري وبنيامين يقفُ من بعيد يرقب ما يحدث، ثم عاد كلٌّ إلى بيته، وقامت أم سليم بدعوةِ العائلة المنكوبة إلى بَيتها، خاصَّة أنَّها لم يعد لديها طعامٌ، بعد أن كان صنعُ الطعام هو سببَ هذه النيران؛ ولذلك وضعت لهم الطعامَ، وأكلوا وارتاحوا، ومن ثَمَّ استأذنوا ليذهبوا ليروا ما بإمكانهم فعله في هذه المصيبة.
أتت أم سليم بوعاء ماء، وطلبت من سالم أن يضعَ يده التي حرقت بهذه الحادثة في تلك المياه؛ لتبرد على يده، وتنظر إلى يده بلهفة وخوف، وكل لحظات تطمئن عليه وأحيانًا تنزل دموعُ عينيها، ويهدئها سالم ويخفف عنها.
نظر بنيامين لأم سليم وهو يرى عظمَ الحنان منها على ولدِها، ويقارنُها بأمه، فهو لم يشعُر بهذه النظرات من أمِّه، وبهذا الحنان، وبعد أن رأى أن الأمورَ هدأت قال سائلاً: وفي النِّهاية ما الذي استفدته من هذا كله؟ فلا أرى إلاَّ أنَّك حُرِقت يدك، وأخفت أمَّك عليك، فنظر سالم مستغربًا، ولكنه قدَّر أنه لم يرَ هذه الألفة في بيئته؛ ولذلك أراد أن يُجيبه على قدر سؤاله، وكأنه في جلسات حوارهما: يا بنيامين، ربَّما ما حدث لا يُمثل لك شيئًا؛ ولذا لم تفهمه، ولكننا نحن ليس فقط نفهمه، بل نعيشه يوميًّا، فنحن تربَّينا على مَحبة بعضنا، وقربنا وكأننا أهل، ولا فرق بين عائلةٍ وأخرى.
وكما احتاجوا إلينا اليومَ، فنحنُ احتجنا إليهم أو سنحتاج إليهم، فهذه علاقة إنسانية لا نقدر أنْ نتحرَّر منها، ولو عشنا منفردين، لتحولت الحياةُ إلى جحيم، وغير ذلك كله فديننا يدعو لإغاثةِ الملهوف، وقضاء حوائجِ الناس، وأنا لن أطيلَ في الكلام، ولكن تخيَّل لو لم أنقذ الولدين، فسيكون مصيرهما الموتَ، فهل تقدر أن تتخيل كم سيكون حرقة الأبوين عليهما طوالَ عمرهما! فانظر إلى ما فعلت، فأنا أدخلت السرورَ على عائلة بأكملِها، وما الذي ضَرَّني، فهذه يدي في أيام بإذن الله تُشفى، ولكنَّ جرحَ والدي الطفلين لم يكن ليبرأَ طوال السنين لو أصاب ابنيهما مكروهٌ.
• وهل إسعاد الآخرين يُسبب لك كُلَّ هذه السعادة؟
• وما الذي يستفيده الإنسان إن سعد الآخرون؟ فلن تشعر بشعورهم؛ لأنَّك مختلف عنهم.
ابتسم بنيامين ثُمَّ قال: أعظمُ شعور تشعر به هو أن تُسعِد غيرَك، وهذه مشاعر، فليست مادة، فلا أحتاج لأشعرَ بالسعادة أن أدخلَ جسدَ مَن يسعد، وأشعر كما يشعر، ولكن مجرد أنْ أرى ابتسامَته، فهذا ينتقل لي، وأشعر بالسعادة، وهذا وإن كان الإسلامُ حَضَّ عليه، ورَغَّب فيه، ولكن تَجد عند غير المسلمين هذه المشاعر أيضًا، ألَم تسمع بالجمعيات الخيرية في أنحاء العالم، فهي شبيهة بذلك، فسعادتهم أن يحققوا السعادة لغيرهم.
ربَّما هذه معانٍ جميلة "قالها بلا مبالاة"، والآن أظن أنَّني تأخرت وعليَّ الانصراف، لأتركك ترتاح، ثم نظر إلى أم سليم، وقال لها: شكرًا لك على الطعام، فهو لذيذ، وأقول لك شيئًا: أنا أشعُر بالسعادة عندما أراكِ، رُبَّما لأنك رمزٌ لكل أم، فشكرته، واستأذن وخرج.
بدأ أصحاب بنيامين ينتبهون للقاءاته المتكررة بسالم، وبدؤوا يُبدون امتعاضَهم منها، ويدعونه إلى تركِها، حتى إنَّ الشرطةَ اليهودية نبهته إلى ذلك، وحَذَّرته ولم يكن يُصغي إلى كُلِّ ذلك، وأصَرَّ على الاستمرار، ولكنَّ حدثًا عظيمًا منع هذا الاستمرار في وقتٍ مُهم بالنسبة لعلاقة بنيامين بسالم، فقد اتَّفقا على أنْ يناقشا موضوعَ فلسطين، ومن لديه الحق في امتلاكها، ورأيَ القرآن في ذلك، ولكن حدوث هذا الحدث حالَ دون ذلك، بل أبعد سالِمًا عن بنيامين بقرارٍ من سالم.
والحدث كان عدوان حزيران في 1967 الذي كان ضربةً كبيرة للعرب وللمسلمين، وكان حدثًا مُؤثرًا في الصِّراع الإسلامي اليهودي، وما هي إلا أيام واحتلت "إسرائيل" عِدَّة أراضٍ عربية، وهي: الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وسيناء، والجولان، وقطاع غزة، وبهذا كان هذا العُدوان نقطةَ يأسٍ للعرب، الذين أصبحوا يؤمنون بأنَّ الحربَ مع تلك الدَّولة المزعومة صارت أطولَ وأطول، وكانت هذه الحرب مؤلمةً جِدًّا للفلسطينيِّين، الذين كانوا يحلمون بتحرير ما كان مُحتلاًّ سابقًا، ولكنهم الآن أصبح لديهم حلم جديد بتحرير أراضٍ أكثر وأكثر.
كانت هذه الحرب مُفاجأة لبنيامين، الذي راقبها بكُلِّ تفصيلاتِها، ورأى قتلَ اليهود، وظلمَهم للعرب، وأيقن أنَّ الصراعَ اتَّسَعَ من صراعِهم مع الفلسطينيِّين إلى صراعهم مع العرب، وأيقن أنَّ وطنه الذي حلم به هو وطن مُحاط بمجموعةِ أعداء، وهي سوريا والأردن ومصر ولبنان، وهذا يعني أنَّ هذا الوطن هو وطن غير آمن، ومن الغباء البقاء فيه، ولكنَّ هذا القرارَ كان صعبًا للغاية، إلاَّ أن لقاءه بصديقه أرئيل شَجَّعه على استمرار التفكير في الهروب من هذا الوطن المرعب، فقد أخبره أرئيل أنَّه قَرَّر أن يكونَ عامه الدراسي المقبل في روسيا، وأنه من الجنون بقاؤه في بلد قائم ولن يستمر إلاَّ على الحروب.
• أيعقل، أرئيل ستترك الوطن وترحل؟
• يا عزيزي، كم مرة قلت لك: إنَّه وطن غير آمن، ولن ننعم بالاستقرار فيه يومًا!
• ها نحن انتصرنا، وتتكلم بهذه الطريقة، فلو أنَّنا هُزِمْنا، فما كان يُمكن أن يكون ردك؟
• قل: بل ما ردُّ اليهود جميعهم؟ فهل تتصور أن نَهزِم ويبقى يهوديٌّ على هذه الأرض؟ ولأني أختلف عن هؤلاء الأغبياء، أرحلُ رَغم انتصارنا، فلست مستعِدًّا أن أمشي في طريق، وأفاجأ بعربي يَطعنني بسِكِّين، فما الذي يقدم لي هذا الوطن بعد موتي، هنا سكت بنيامين، ولم ينطق مُطلقًا، فتابع أرئيل: والآن يا عزيزي، هل معك مال؟ وأعِدُك أنَّه قرض، وسأعطيك إيَّاه قريبًا جدًّا.
• يا إلهي، حتى وأنت مسافر تنصب، وكيف أستعيده منك، كما استعدت المال السابق؟ أم هل أسافر إلى روسيا لأستعيده؟
• يا صاحبي، ما هذا الهُراء؟ أيعقل أن أكونَ نصابًا؟! وعلى من؟ على صديقي العزيز بنيامين، ولكني أحتاج... فقاطعه بنيامين، وأعطاه مالاً، وتركه ومضى.
صارت القدس الشرقية تحت قبضةِ اليهود بما فيها المسجد الأقصى، فبدأ اليهود يدخلونه رغمًا عن المسلمين، وصار لهم حَقٌّ فيه بقوتهم؛ ولذلك أرادت إلين أن تعرِّف بنيامين على حائط البُراق، الذي يسمونه "المبكي"؛ لتوصل له أنَّ هيكلَ سليمان هو مَوجود ضمنَ المسجد الأقصى، وهكذا ذهبت العائلةُ جميعًا للقُدس الشرقية، ودخلوا المسجدَ من الناحية التي يدخل منها اليهود، فما أن داست قدما بنيامين أرضَ المسجد حتى شعر بإحساس غريب، ورهبة، ثم طمأنينة عجيبة، وشعر أنَّ هذا المكانَ له قيمة عظيمة، فبدأ ينظر إلى أطرافِه، وينظر من حوله، فأحسَّ بسَعَة المكان، ودفئه، فاستغرب أحاسيسه رغْمَ أنَّه ليس من المتدينين، فبحث عن تفسيرٍ لأحاسيسه، فلم يَجد إلاَّ تفسيرًا ظنه هو الصحيح، وهو أن هذا المكان ربَّما يكون فعلاً هو هيكل سليمان؛ ولذلك كانت أحاسيسه بهذه الطريقة، فتكلم عنها لأبويه، فأكدت له أمُّه ما كان يظنه، وأنَّ أحاسيسَه فعلاً ما هي إلاَّ لأنَّه هيكل سليمان مُتناسيةً أصلَ بنيامين، وأن المسجد الأقصى يخص بنيامين ذا الأصل المسلم.
وبعد هذا العُدوان الإجرامي على أراضي العرب ظُلمًا وعُدوانًا أراد بنيامين أن يعودَ ليلتقي هو وسالم، ولكنَّ سالِمًا لم يرضَ مطلقًا أن يلتقي معه؛ لكونه واحدًا من اليهود المغتصبين، الذين رضوا بأنْ يعيشوا على أرضٍ ليست من حَقِّهم، وعاود بنيامين محاولته عدة مرَّات، ولكن لا فائدة، وأيقن أن لقاءَه وسالِمًا أصبح ضربًا من المستحيل، ولكنَّ بنيامين رَغْمَ بُعْدِ سالم عنه، فإنَّه صار أكثرَ انتباهًا لأعمال اليهود، على عكس ما سبق، فقد كان لا يهتم بالمواطنين العرب، وتعامل اليهود معهم؛ لأنَّ العربَ كانوا بالنسبة له مخلوقات مكروهة ليس لها أيُّ قيمة، فكان أيُّ عمل من اليهود لا يُثير اهتمامَه، حتى ولو كان هذا مُخالِفًا للقوانين الإنسانية.









عرض البوم صور ابو فتحي   رد مع اقتباس
قديم 06-12-2013, 05:27 PM   المشاركة رقم: 27
المعلومات
الكاتب:
ابو فتحي
اللقب:
مدير عام سابق
الرتبة


البيانات
التسجيل: Jun 2010
العضوية: 2821
المشاركات: 531 [+]
بمعدل : 0.11 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو فتحي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:
إرسال رسالة عبر Skype إلى ابو فتحي

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

ومثال ذلك: عندما كان عائدًا من بيت سالم إِثْرَ إحدى مُحاولاته للقائه غاضبًا منه؛ لرفضه التعامُل معه بتاتًا، وأيقن أن المعلومات التي بدأت تكبر عنده عن المسلمين قبل الحرب ستبقى في مكانِها، ولن تكبر على الأقل في الوقت الحالي ... وهو هكذا يُفكِّر في خسارته لسالم؛ بسبب الحرب، وإذا بالجنود اليهود يَجرّون شابَّين من العرب، وهما يُقاومانهم ويشتمانهم، وكانت كلماتهما الغاضبة مؤثرة جدًّا في بنيامين، فقد قال أحدُ الشابين وهو يصرُخ في وجه الجنود، وبكلِّ كبرياء، وأَنَفة، وعدم خوف، في منظرٍ لَم يَرَه قطُّ في الشبان اليهود:
ستدفعون الثمن غاليًا أيها المجرمون، سترحلون من بلادنا حتمًا، وبقاؤكم هنا ليس إلاَّ حلمًا من أحلامِكم الخيالية، فأنتم مغفلون تكذبون على أنفسِكم بأنَّ هذا البلدَ وطنٌ لكم، وستدفعون ثَمَن هذا التخيُّل غاليًا؛ لأننا لن نترككم تنعمون على أرضنا، وتابع الشاب الثاني الحديثَ قائلاً بعزة تشبه عزة الأول:
أيُّها الأغبياء، سنطردكم من أرضنا، وسنقتلكم كُلَّ يوم، ولن تنعموا أبدًا، وهنا جُنَّ جنون اليهود الذين رُعبوا من هذا الكلام، وأثارهم وأثار كبرهم، فكيف يُهدِّد من يُعتقَل مَن يَعتقِل؟! ولذا أصبحوا كالثَّورِ الهائج، وانكبُّوا على الشابين يَضربونهما بكلِّ وحشية بمُؤخرة بنادقِهم حتى كسرت يَدُ أحدِ الشابين، ونزفت الدِّماء من الآخر، وظلوا هكذا حتى استطاعوا السيطرةَ عليهما بعدما أن انهارت قواهما، ووضعوهما في سيارة وأخذوهما.
بُهِتَ بنيامين من كل ما رأى، وتساءل بينه وبين نفسه: هل نَحن في غابة أو في دولة ديمقراطية؟ وهل ستبقى حياتنا في هذا البلد على هذا المنوال، إذًا فنحن في عالم خارجٍ عن الإنسانية، ثُمَّ سأل نفسَه: هل أنت مجنون - يا بنيامين - لتبقى في هذا البلد؟ ثُمَّ رد على نفسِه: وهل تريدني أنْ أرحلَ عن وطني، فهذا هو مصيرك، فأنت يهودي، وإسرائيل هو وطن اليهود، فهل تريد أن تعيشَ بعيدًا عن شعبك، ويعيش أبناؤك غريبين لا يعلمون وطنَهم، وهنا سكت وترك هذه الأفكار التي لا جوابَ له عليها.
بدأت السنةُ الدراسيةُ الثالثةُ بالنسبة لبنيامين، ونَسِيَ قصةَ الرحيل من وطنه، ونَسِيَ الحربَ، وعاد لينشغل بمحاضراته وبحياته، ولم يَمُرَّ سوى أسابيعَ قليلة على بداية الجامعة، فإذا به يسمع أنَّ الشرطةَ اليهودية اعتقلت سالِمًا، فاستغرب كثيرًا، وانزعج لهذا الخبر، خاصَّة أنَّ سالِمًا هو الآن يكمل دراسته العليا؛ ليتخصص في الجراحة التخصُّص الذي اختاره؛ لإدراكه أهميتَه في مُجتمعه المحتل، الذي تكثُر فيه الحروب، فقد أحب أن يكون مجاهدًا في طبّه.
فقرر بنيامين أن يذهبَ إلى بيت سالم؛ ليعرفَ الخبر بالتفصيل، وفعلاً ذهب وفوجئت أمُّ سليم بزيارته، ورفضت استقباله بدايةً، ولكنَّه لَمَّا أصرَّ عليها، وأكد لها أنَّه لا يرضى بكل ما يَحدث، ولم يأتِ اليومَ إلا ليطمئن على سالم الصاحب الذي قَدَّم له خدمات كبيرة، فلما شعرت بقلقه وخوفه على ابنها، أدخلته وقَصَّت عليه الخبرَ، وأنَّ سالِمًا لم يُعتقل إلاَّ بسبب أخيه سليم، الذي اعتُقل هو الآخر.
فقد كان سليم، الذي هو الأخ الأكبر لسالم - مُحِبًّا جِدًّا لوطنه، تَملأ قلبَه الغيرةُ على بلده، وأبناء شعبه؛ ولذا كان يُجن عندما يرى أبناءَ شعبه يُذَلُّون ويُظلَمون من اليهود، ويسعى بكلِّ ما يستطيع؛ ليجدَ حَلاًّ لينتقم لهؤلاءِ المظلومين، الذين يعانون في كل يوم، بل في كل ساعة، ومن هنا فقد اتَّفق هو وبعض أصدقائه على حلٍّ رأوا أنَّه سيوجع اليهود بإذن الله.
وكانت الفكرة تتلخص في أنْ يقومَ هؤلاء الشباب بإيقاع الأذى باليهود بقدر المستطاع؛ ولهذا اتَّفقوا على أن يكونَ سلاحُهم هو السكاكين، فكانت قناعتهم أنَّهم يؤذون اليهود، ولو كان بحوادثَ قليلة، المهم أن يبثوا الرعبَ في قلوب اليهود، ولا يتركونهم آمنين، وفعلاً كان هؤلاء الشباب يقومون بطَعْنِ اليهودي، ويلوذون بالفرار، ويعملون هذا الفعلَ على حسب ما يتيسَّر لهم، وبحاراتٍ مُتعددة، وليس بحارة واحدة، فكان ذلك مزعجًا لليهود، ومُسبِّبًا لهم الرعب.
وأصبح هذا الأمرُ لليهود هو شغلهم الشاغل، وسَعَوا لكشفهم، وهذا الذي حدث في النِّهاية، واعتقلتهم الشرطةُ، وكان سالم ممن اعتُقل بسبب أخيه؛ لأنَّهم شكوا أن يكونَ شريكًا له، ولما سمع بنيامين بالقصة، غضب من هؤلاء الشباب من جهة كونه يهوديًّا على كل حال، ومن جهة أخرى غضب من أجل سالم؛ لأنه أدرك أنه ليس له يد فيما يجري؛ ولذا وعد أمَّ سليم بأنْ يساعده؛ ليخرجَ من السجن، ولكنَّ أم سليم لم تعبأ بهذا الوعد؛ لكونها تعلمُ كذبَ اليهود، وعدم وفائهم بالوعود، ولكنها شكرته، وكأنها تصدقه.
ولكن بنيامين أخذ الأمرَ بكل جدية، وكأن شيئًا يدفعه لأَنْ يساعِدَ سالِمًا، وكان بنيامين يظُنُّ أنَّ هذا الأمرَ هو فقط ليرد معروفَ سالم معه، ولكنه في النهاية اكتشف أنَّ السبب الحقيقي هو أنَّه يُحِبُّ سالِمًا بشكل حقيقي؛ ولذا سخر كلَّ معارفه لهذا الأمر، وصار يركض من مكانٍ إلى آخر، ولكن دون فائدة، حتى إنَّ أباه علم بهذه التحرُّكات وتفاجأ بعمله ورَغبته، ولكن بنيامين بَرَّر ذلك بأنه زميل، وقدم له خدماتٍ، وله مَصلحة في إخراجه؛ ولهذا اقتنع والده، وحاول هو الآخر من خلال بعضِ معارفه، وفعلاً أُخرج سالِمٌ من السجن، ولكن أخاه لم يخرج؛ لأنَّ الأدلةَ أدانته، ولكن لم تُدِنْ سالِمًا، ولكنَّ هذه التحرُّكات لم تعجب الشرطةَ، وأصبح بنيامين مثارَ شكٍّ وتساؤلات عند الشرطة، خاصَّة أن بنيامين شُوهِد عِدَّة مرات في بيت سالم.
ولكن الشرطة لم تُولِ اهتمامًا كثيرًا لذلك في البداية، ولكن ما أثارها جديًّا هو وجوده في اليوم الذي تقرَّر فيه هدم بيت أم سليم، وطردهم من القدس؛ ليكون واسطةً؛ لكونه يهوديًّا؛ كي لا يهدم البيتُ، واعتصمت الأسرةُ مع كثير من الجيران، واعتصم بنيامين معهم؛ لعلَّ ذلك يكون مانعًا لليهود؛ كي لا يهدم البيت، فهذا أزعج اليهود، فكيف يشارك يهوديٌّ في معاونة أسرة عربية ضِدَّهم، فحاولوا إقناعه بأن يتخلى عمَّا يقوم به، ولكن دون فائدة.
ولَمَّا استَيْئَسوا بدؤوا يتجاهلونه، ويطلبون ممن يعتصم بأنْ يَخرج بالحُسنى، ولكن لا أحدَ يستجيب، ثُمَّ بدأ التهديد، ولَمَّا لم يستجِبْ أحدٌ ثار جنونُ الجنود، وأمروا بهدمِ البيت على رُؤوس مَن يبقى، وفعلاً بدأ الهدمُ، وصار الناسُ يهربون ويتراكضون، وبدؤوا هم وسالم يُخرِجون الأطفال؛ كي لا يصابون بأذى، فيشعرون بأنَّهم السبب في أذيَّة الأبرياء، خاصَّة أن هذا الأمر لا يهم اليهود مطلقًا، فالقتل هو ديدنهم وعقيدتهم، فلن يكونَ للأطفال أيُّ تأثير في اليهود لتلين قلوبهم، فهم يعرفون أن قلبَ اليهودي لا يلين.
وما هي إلا دقائق، وأصبح هدم البيت حتميًّا لا رَجْعَة فيه، وبدأت الحجارة تَهوي حَجَرًا حَجَرًا أمام مرأى أم سليم، فأيقنت أنَّ بيتها الذي عاشت فيه مع زوجها المتوفَّى، ومع أولادها الاثني عشر أكثرَ من خمس وعشرين سنة، ولم يتركوه حتى عندما احتل اليهودُ القدس سنة 1948، بل صمدوا فيه، ولم يرضوا بتركه، حتى وإن عاشوا تحت الاحتلال - أيقنت بتصدُّعه وهدمه.
ولأن كل هذه الأفكار هجمت على بالِ أم سليم، فما كان منها إلاَّ أن هجمت على اليهود، الأمرُ الذي فاجأ الجميعَ، سواء الجنود أم أولادها أم بنيامين هو الآخر، وبدأت تقاومهم بيدها، وتُحاول إبعادَهم عن بيتها وكأنَّها أسدٌ، وقد نسيت أنَّها امرأة لا تقدر على مُواجهة كل هؤلاء الجنود، ولكنَّ الأَلَم والظلم جعل منها رجلاً لا امرأة، إلاَّ أنَّ هذا الفعل أغضب اليهودَ، وبدؤوا يضربونها دون أدنى مراعاة لكونها امرأة، فعند اليهود لا وجودَ لخلق الرِّفق مع المرأة ومعاملتها معاملة خاصة.
بل هاجموها وكأنها شاب قوي لا يُقاوم، ولكن أم سليم لم تستسلم، بل بصقت في وجهِ الجندي، الذي يُهاجِمُها، وظلت تدفعه هو وغيره، ولكنَّ هذا الجنديَّ شَعَرَ أنَّ كبرياءَه كيهودي قد أصيبَ بمقتل، فأصبحَ يضربُها بعصا معه، كانت مُجهزة؛ ليستعملها الجندي لمن يقاومه من الرِّجال، ولكنها صارت من نصيب أم سليم، وهذا ما أثار سالم وبعض إخوته الكبار، كما أثار بنيامين، فهجموا على اليهود، وأصبحوا يضربونهم، ويبعدونهم عن أم سليم، وكان بنيامين قتاله مدهشًا للجميع، فلم يكن متوقعًا من أحد.
ولكن ذلك لم يكن غريبًا للعائلة وللجنود فقط، بل لبنيامين نفسه، فهذه أول مرة يُدافِع عن شخصٍ، ولكن هذا المعنى كان غائبًا عنه في المواجهة؛ حيث كان كل ما يهمه ساعتَها هو أم سليم، هذه الأم الحنون، التي رمزت بالنسبة له لكل أم حنون ذات قلب واسع، حتى ولو لم يكن هذا له، ولكنه رآه في تعامُلها مع أبنائها، وأبناء جيرانها، ولم تستمر المواجهةُ كثيرًا؛ بسبب اعتقال الإخوة وبنيامين، ووضعهم بمكان جانبي؛ لينظروا إلى عمل سيقوم به الجندي الذي بصقت عليه أم سليم.
بينما كان الشُّبَّان مقيدين لا حَرَاكَ لهم، أطْلَقَ هذا الجنديُّ المتعجرف رَصاصَه على أم سليم، فوقعت على الأرض، وأراد أولادُها أنْ يعملوا شيئًا، ولكن من غير فائدة؛ بسبب قيودهم، أما بنيامين فكأنَّ شيئًا ثَمينًا أُصِيبَ أمام عينيه، فكان قتل هذه المرأة المصيبةَ الثانية في حياته بعد مَقتل أخته سارة، ولكن المصيبة والإجرام لم ينتهِ، فظَلَّ بأم سليم نَفَسٌ، ولذلك أمر هذا الجندي بعضَ من معه؛ ليجرَّها أمامَ كل مَن حاول أن يقولَ له: لا.
وهكذا صار بعضُ الجنود يسحبون أم سليم، ويَجرونها على الأرض، وهي بأنفاسها الأخيرة، والجنود يضحكون، والشبان ينظرون بأَلَمٍ لا يُمكن أن يقاسَ أو يوصف بوصف، ولكنَّ الله رحم تلك المرأة المسكينة، فأخرج نفسَها الأخير، وفاضت روحها وهي تكبر الله دون يأس، أو خنوع، وسيق الشبان إلى الأَسْرِ، وأمَّا أم سليم، فقد واراها جيرانُها في الثرى، وضَمُّوا أبناءَها الصغار إلى أبنائهم حتى يخرج الإخوة الكبار.
كان اعتقال بنيامين من أكثر الأمور التي استغربها ولم يتوقعها، فكيف يعقل أن يُعتقل اليهودي ويهان؛ لمجرد أنَّه أراد أن يمارس حَقَّه في الحرية والتضامُن مع أحد الأُسَر؟! فقد كان هذا رأيه، ويعتقد أنَّ هذا الأَمْرَ هو حرية شخصية له.
سمع الأبوان باعتقال ابنهما، وعرفا القصةَ كلها، الأمرُ الذي أثار انزعاجهما، فكيف يتضامَن ابنهما مع عرب ومُسلمين، والأمر الذي أزعجهما أكثر أنَّ الذي حصل بمثابة تعاطُف ابنهما مع أصله، وتأثُّره بالعرب يعني أنَّه يُمكن أنْ يُصْبِحَ هذا عملاً دائمًا له، ويساعده على ذلك فطرته، التي تقول له: إنَّك عربي ومُسلم، فكان هذا الحديث يزعج أفخاي وإلين كثيرًا، ولا يَفتحانِه مَرَّة إلاَّ وانتهى بقتالهما؛ بسبب لومهما لبعض، فهو يلومها على تبنِّيه أصلاً، وهي تلومه؛ لأنه لم يُحسن تربيتَه جيدًا، بل تركها وحْدَها، وتَخَلَّى عنها، وهكذا دائمًا.
تَعَرَّضَ بنيامين لإساءاتٍ كانت كبيرة بالنسبة له، مع أنَّها لم تتعدَّ أكثرَ من الشتائم، واتهامه بالتعامُل مع الأعداء والذين هم العرب طبعًا، ولكن ما أزعج بنيامين أشدَّ الإزعاج هو مُحاولة أحد المحقِّقين الاستيلاءَ على قلادته العزيزة، وحاولَ بكُلِّ الطرق، سواء الترغيب أم الترهيب؛ ليستولِيَ عليها، ولكنَّ بنيامين هدَّده: إنْ عاد لِمُحاولاتِه، سيضره في عمله، وعرَّفه بنفسه، وأنه ابنُ أحد كبار رجال الأعمال في القُدس؛ ولهذا لديه القدرة على إيذائه، ولذلك خاف هذا المحقق، ولم يَعُد يطلُب منه القلادة.
وفي إحدى الليالي تقرر فجأة حبسُ بنيامين منفردًا، فتفاجأ جِدًّا من هذا العمل، مع أنَّه ارتاح بفصلِه وَحْدَه، فقد كان يشعر بأنَّه مُهان؛ لسكنه في زنزانة واحدة مع المجرمين والقتلة، وكأنَّه مُجرمٌ، وفي الليل دخل الحارسُ على بنيامين بعد نومه خلسة، وبخُطا هادئة، وأراد أن يسرقَ القلادة بأمرٍ من ذاك المحقق.
وحاول الحارسُ أن يأخذَ القلادةَ، ولكنَّه علم أنَّه شيءٌ صعب، فكيف سيقترب منه، ويفكها وهي في رقبته؛ ولذا قَرَّر أنْ يتراجعَ عن فعله، ولكنَّه تذكر وعدَ ذلك المحقق له بمبلغ لم يَحلُم به من قبل؛ ولذلك عاد للمُحاولة آملاً بأن يكونَ نومُ بنيامين ثقيلاً، فاقترب منه، وحاول فَكَّها، وفعلاً فُكَّتْ معه، وكانت سعادته كبيرة، فالآن أصبح المالُ أكثرَ قربًا منه، ولكنَّ أحلامَه تبدَّدت خلال ثوانٍ؛ لأنَّ بنيامين شعر به، وشَدَّ قلادتَه بسُرعة من ذلك الحارس الطامع بالمال، ولكن من عظم شَدِّه للقلادة أوقعها على الأرض، فنَسِيَ أنه عليه أن يقاتلَ ذلك الحارس؛ لأنَّه انشغلَ برفع قلادتِه من الأرض، ولَمَّا صارت في يده، واطمأَنَّ قلبه، أراد ذلك الحارس لمحاسبته على فعلته التي يعدُّها بنيامين وكأنها استهدافٌ لحياته، ولكن الحارس كان قد هرب، وأغلق الباب وراءه، فلم يستطعْ بنيامين أنْ يفعلَ شيئًا؛ ولذلك أجَّل المحاسبةَ إلى اليوم التالي.
جلس بنيامين وهو يضُمُّ القلادةَ إلى صدره، وكأنَّها حبيبٌ كاد يفارقه، ثُمَّ عاد إليها، وبدأ يتأملها، ولكنه بعد نظره الطويل لها رأى شيئًا ضيَّق صدره وأزعجه أيَّما إزعاج، فقد اكتشف أنَّ قلادتَه كسرت؛ بسَبَبِ جذبِها من ذاك الحارس البغيض، ولم يدرِ ماذا يعمل، فقام وبدأ يصرخُ مكلِّمًا هؤلاء الذين سجنوه، وسبَّبوا له هذه المصيبة العظيمة، وأصبح يقول بغضب: أيُّها الكلاب، أنتم كلاب أنجاس، أنا أكرهكم أيها الجنود والحُرَّاس، وظل يصرخُ إلى أنْ جاءه تهديدٌ من أحدِ الحراس، فجلس يائسًا حزينًا على قلادته ينظر إليها بِكُلِّ أَسًى.
ولكنه وهو يتفحصها اكتشفَ أنَّ هذا الكسر ليس بكسرٍ، بل وكأنَّ قلادته تفتح، فأراد فتحَها، ففتحت فانقلبَ حزنه إلى سَعادة، فهذا زاد القلادةَ جمالاً على جمال، ولكن ما أوقف مشاعر الاغتباط والسعادة لديه هو انتباهه إلى النَّقش، الذي في القلادة، والذي يُعطيها جمالاً؛ لكونه بخط رائع لَم يَمر على بنيامين، ولكنَّه لم يفهم النقشَ، وبعد تفكير لوقتٍ مُعين أيقن أنَّ هذا النقشَ هو باللغة العربية، فهو تعرَّف على طريقةِ كتابة الكلمات العربية عندما كان له علاقة بماري، وبعلاقته مع سالم أيضًا.
فعلى الرَّغم من اضطرارهما للكتابة بالعبرية، ولكنَّه كان كثيرًا ما يرى لهما كتاباتٍ بالعربية، فكان هذا الأمرُ غريبًا بالنسبة له، وتساءل عن السببِ الذي يَجعل أُمَّه تشتري له قلادة فيها نقشٌ عربي، وعزم على أنْ يسألَها، ولكن هذا العزم لم يَمنعه من أن يبحثَ عن اللغز بنفسه طوالَ الليل، وفي النِّهاية شكَّ أنْ تكونَ هذه القلادة لعربي، وأمه اشترتها بالصدفة، ولم تعرف بالنقش، ثُمَّ أغلقها وأعادها لِمَا كانت عليه ونام.
في الصباح اشتكى بنيامينُ المحققَ والحارس؛ لعلمه أنَّ الحارسَ مكلف من المحقق، وفعلاً قامت الشرطةُ بمحاسبتهما؛ مِمَّا أسعدَ بنيامين الذي لم يَمضِ يومان آخران حتى خرج من السجن بنفوذ أبيه وماله، كما عمل بنيامين على إخراج سالم وإخوته، ولكن بشرط ترحيلهما إلى القُدس الشرقية، التي لم تَعُد تختلف عن الغربية بعد احتلالها، وفعلاً وافق سالِمٌ على الخروج، ونقل دراسَتَه إلى القدس الشرقية، وقبل رحيله بيومٍ زاره بنيامين، فشكره سالِمٌ على كل ما عمل من أجله، وقال له: إنَّك فعلاً لستَ كاليهود؛ لأنَّك حفظت المعروف.
كما قال له: إنَّه يُقدِّر كلَّ أعماله، خاصَّة سجنه لمدة أسبوع من أجلهم، فرد عليه بنيامين بألم: هل يا سالم إلى هذا الحد مقتنعون باستحالة عملِ الخير من اليهود؟ صدقني، إنِّي لم أرضَ عن كل ما حدث، ومقتل أم سليم كان بمثابة قَتْلِي، فلم أصب في حياتي مثل هذا المصاب، ربَّما لن تصدقني، ولكني كنت أحبُّ أمَّك يا سالم، وكنت أرتاح لرُؤيتها، وكأنها أمٌّ لي.
وعندما قتلت شعرت بأنَّ قلبي أصيب، فإذا بدُموعه تسقُط على خَدِّه، وللمرة الثانية يرى سالم دموعَ بنيامين، وقد أصبح يُدرك أنَّ بنيامين فيه شيء - وإن قَلَّ - من الإنسانية، التي لم يكن يتوقعها من يهودي، وهنا قال له: يا بنيامين، أنا أقدِّر لك مشاعرك، وأدرك أنَّ فيك شيئًا من الاختلاف، ولكن أنت أيضًا عليك تقدير موقفي، فالذي جرى لي سيجعلني إلى مَماتي أكرهُ اليهودَ، وأكره ظلمَهم.
ويا بنيامين، نَحن المسلمين لا نقاتل إلاَّ مَن قاتلنا، هل رأيت مسلمًا يقتل يهوديًّا خارجَ فلسطين، فباعتقادك لماذا؟ ليس لشيء إلاَّ لأنَّنا لا نقاتل إلاَّ من اعتدى علينا، وجاء مغتصبًا لأرضنا.
• سالم أنا قررت قرارًا لم أخبر به أحدًا، وأنت أول من يعرف، وهو قراري بالعودة إلى أمريكا؛ لأكملَ دراستي هناك، فأنا أهِنت ببلدي، فقاطعه سالم وقال: ليس بلدك يا بنيامين، احفظ هذا جيدًا، ليست بلدك شئتَ أم أبيتَ، فأكمل بنيامين كلامَه دون أن يعلق على كلام سالم: سأذهب إلى أمريكا، فهناك راحتي، وسأكمل دراستي، وأصبحُ صحفيًّا؛ لأعملَ هناك، وليس هنا، فلم أعد أطيق العيش هنا.
• لأنَّك أيقنت بظلم قيادتك وحكومتك؛ ولذا فأنا سعيدٌ بأنْ تتخذَ موقفًا كهذا، وأتمنى من اليهود كافة أن ينهجوا نَهجك.
• لن يتركَ اليهود وطنهم؛ لأنَّه يقدم لهم صنوفَ الرفاهية، وهذا ما يهمهم... ولكني أريد أنْ أحكيَ لك شيئًا حدث لي، لولاه لكنت صدقتك، وقلت: هذا ليس وطني، وأحكي لك؛ لأنَّك دومًا كنت تُكلمني عن دينك، وربك، ومشاعرك الإيمانية التي تَهتمون بها كثيرًا، ولذا فإمَّا أن تقتنعَ بكلامي، وإما أن ألغي كلَّ كلامك عن الإيمان والتدين.
• وما هذا الأمر؟
• لقد زُرت حائطَ "المبكي"، وشعرت بقُربٍ من الرب، مع عدم تديُّني، ولكني وبدخولي لهذا المكان شعرت بالطَّمأنينة والسكينة، التي لم أشعر بها من قبل.
• وما علاقتي أنا؟ ولِمَ تكلمني عن هذا، وعمومًا هذا حائط البُراق، وليس المبكي كما تدعي.
• هذا هو دليل صدقنا، فأنت دائمًا تتكلم عن الإحساس والمشاعر والإيمان، ومن هذه السكينة تأكَّدت أنَّ هذا المكان هو هيكل سليمان، وإن لم يكن كذلك، فلِمَ شعرت بالراحة إذًا؟ فضحك سالم كثيرًا متعجبًا من قوله، فسأله عن سبب ضحكه.
• هل زرت مسجدًا من قبل؟
• لا.
• إذًا انتهى الأمر، وعرفت ما السبب؟
• ماذا تقصد؟
• أقصد هذه السكينة هي بسببِ دُخولك المسجدَ الأقصى، وليس هيكل سليمان كما تزعم، وهل تصدق أنْ يقبل أحدٌ بهذا الدليل؛ لِمُجرد ارتياحك، فهذا يعني أنه هيكل سليمان.
• أنا قلت: إنَّ عليك فهمي، فهذا دليلٌ لي وشعور، وأنت مَن علمتني أنْ لا أكونَ ماديًّا، وأنَّ المشاعر يحسُّ بها الإنسان، ثُم كيف أشعر بسكينة؛ بسبب دخول مسجد وأنا يهودي، ولست مسلمًا.
• لأنَّ المسجدَ له سكونه، وراحته، ووقاره، وأنت أولُ مرةٍ تدخل المسجد، وأي مسجد؟! فهو المسجد الأقصى، ثالث المساجد المقدَّسة لدينا، رُبَّما استشعرت أنَّ هذا مسجدُ المسلمين؛ ولذلك شعرتَ بمشاعر مُعينة، وأنت ظننتَ أنَّها سكينة، ولِمَ لا تكون خوفًا؛ يعني: كعادتكم أنَّكم تَخافون من المسلمين؛ لأنَّكم تعلمون أنَّكم ظلمة؛ ولذا حاولت مُقاومة مشاعر الخوف بهذه السكينة المفتعلة.
• (أوه) يا إلهي، كل هذه التفسيرات؛ لتقول لي: إنَّه ليس هيكلَ سليمان.
• أقول لك كلمةً واحدة، وهي أنَّ كلَّ كلامِك وكلام أسيادك لن يُزوِّر التاريخَ، ولن يُزوِّرَ القرآن الكريم المحفوظ، ولا ريب فيه، ولن تقنعونا بأنَّ هذا المسجد هو هيكل سليمان؛ لأن الحقائق لدينا، وليس لديكم، ولأنَّ كل منصف لو عرفَ بقِصَّةِ المسجد الأقصى، لعَلِمَ، ولاعترف بحق المسلمين به.
فهذا المسجد بُنِيَ بعد المسجد الحرام، الذي بناه سيدنا آدم أبو البشر بأربعين سنة؛ يعني: هو من أوائل المساجد، التي بُنِيَت على الأرض، وبعد أن تنَقَّل بين الإمبراطوريات عاد وفتحه سيدُنا عمر بن الخطاب - رضوان الله عليه - في أوائل البَعثة؛ يعني: من أكثرَ من ألف سنة، فهل تقنعني بهذه المشاعر أنَّ هذا المسجد لكم؛ لِمُجرد احتلالكم له منذ أيام قليلة، ثُمَّ لأقول لك حتى وإن كنت شعرت، فكما قلت سابقًا: هي سكينة المسجد الأقصى، لا سكينة سيطرتكم عليه بظلمكم وإفسادكم.
هنا سكت بنيامين، ولم يرد بكلمة، وبعد صمتٍ طويل ترك بنيامين هذا الموضوع، وطلب من سالم أنْ يذهبَ معه إلى أمريكا؛ ليدرسَ هناك، فاستغرب سالم ذلك، وقال: إن ذلك هو المستحيل بعينه، وخاصَّة أنه العائل لأسرته بعد موت أمه، وأسر أخيه، فحزن بنيامين؛ لأنه كان يرى في سالم الصديقَ الوحيد، الذي يَثِقُ به، وهنا قال له: أريد أن أقول كلمةً قبل أن نفترق: أنا فعلاً أحببتك، وأحببت عائلتك وأمَّك أم سليم، وكم كنت أتمنى أن أقتربَ منكم أكثرَ، ولكن اختلافنا الحتمي وقف حائلاً دون ذلك! ولكن أرجو أن تَثِقَ بي كصديق لك.
• أقدر شعورك، وكنت فعلاً على قَدْرِ المسؤولية، واعذرني إنْ لم أقدر أن أكونَ معك كما ينبغي، ولكن بمجرد كونك يهوديًّا، وتحمل الهُوِيَّة الإسرائيلية، فكان ذلك يزعجني.
• ولكن الآن أَتركُ وطني، وأعود إلى أمريكا.
• ولكنك ستبقى تَحمل هويتك، ورضيت بأن يكون وطني هو وطنك رغمًا عنا جميعًا.
• هذا الجدل لن ينتهيَ؛ ولذلك لنتركه للزمن؛ ليقرر، والآن أستأذن، فودعا بعضهما، وافترقا وفي طريقِ العودة تذكَّر بنيامين النقشَ العربي، فلامَ نفسَه على نسيان الأمر، وكيف لم يسأله عن ترجمته، ولكن سرعان ما غَيَّر رأيه، وقال: تريث يا بنيامين؛ لترى مَن تَثِق به غايةَ الثقة؛ حتى يترجم لك دون أنْ يكونَ على صلة وثيقة بك.
ولكنَّ موضوع النقش ظلَّ يشغل باله، فقرَّر أن يسألَ أمه عن هذا النقش، ولِمَ لَم تخبره بأنَّ القلادة تفتح؟ فهي أقدر الناسِ على إجابته على هذه الأسئلة، وفعلاً فتح الموضوع معها، وهما يَجلسان أمام التِّلفاز، وحكى لها عما حدث له في السجن، وكيف أنَّ القلادة كادت أن تسرقَ لولا تنبُّهه في آخر لحظة، فردَّت إلين: رائع أنَّها لم تسرق، عندها رُبَّما تُجَنُّ.
فشعر بنيامين من رَدِّها بنوع من السخرية، وانتبه أكثر؛ لعدم اكتراثها بالقلادة، فكان لذلك أثرُه المؤلم عليه، وزادت تساؤلاته لنفسه عن سببِ ذلك الذي بات يظهر أكثر وأكثر، ولكنَّه حاول تَجاهُل تلك الأفكار، وتابع كلامه: كما حدث يا أمي أمرٌ غريب معي، ولكنَّ رنين الهاتف أوقفه عن الكلام، فقامت أمه؛ لترى مَن، فإذا بصديقتها تكلمها، فجلست تحدثها، وتابع بنيامين أفكاره، وقال لنفسه: كيف تخبرها بهذا الأمر؟ ومَن قال: إنَّها تعلم عنه شيئًا؟
ثُمَّ ما يُدريك إن علمت أن لا تقف في وجه هذه القلادة، وتُحاول إبعادَك عنها، ثُمَّ تساءل متعجبًا: أيعقل أنَّها تغار عليَّ من هذه القلادة؟ ولكنَّه سخر من نفسه لهذا التفكير، وقال: وهل تغار الأمُّ على ولدها، وهنا أنْهَت الأُمُّ مكالمتها، وعادت لتسألَ ابنهَا عن الشيء الغريب، الذي كان سيُحدثها عنه، فرد: لا شيء، كنت أريد فقط أنْ أقولَ: إنَّ القلادة كادت أنْ تكسَر عندما جذبتها من الحارس، فردَّت بتأفُّف: يا بُنَيَّ، ما بك؟ قلت لي: إنَّك ستحدثني بموضوع مُهِم، فأقلقتني، فإذا بك تتحدث عن القلادة... وكادت تسرق... وكانت ستكسر... هل أذهبت عقلك تلك القلادة؟ فلم يهتمَّ بكلامها، وتَرَكَها، ودخل غرفته، وهو على قناعةٍ أنَّ هذه القلادة لَم تَعُد مُجردَ قلادةٍ غالية على قلبه، بل أصبحت لغزًا أخذ عهدًا على نفسه أن يحله.
اتَّخذ بنيامين قرارَه بالعودة إلى أمريكا بشَكْلٍ نِهائي، وعزم على ترك ما يعتقده وطنًا له، وبدأ يعمل إجراءاتِه لذلك، وأخبر والديه بقراره، فتفاجأا ولاماه على ذلك، وقالا: إنَّ سجنه لا يُعطيه المبررَ لهذا العمل، ولترك وطنه، فهذه الحادثة صحيح حادثة مُؤلمة، لكنها انتهت، ولكنَّه أصَرَّ على ذلك، وقال لهما: إنَّ الأسبابَ كثيرة، من ضمنها قتلُ سارة، فكيف يُمكن لأيِّ دولة أنْ تقتلَ أبناءها لمجرد أنهم مارسوا حريتَهم الشخصية، وفي النهاية ليتَ أن الجندي أخذ جزاءه، بل اعتُبِر فعلُه قتلاً خطأً في أثناء أعمال شَغَبٍ، وأخبرهم أنَّه بدأ فعلاً في عمل الإجراءات، ووجد صعوبةً في سيرها بدايةً؛ لأَنَّ العام الدراسي قد بدأ منذ فترة، ولكنَّ اليهوديَّ لا يصعب عليه شيء، فله كل الحقوق؛ ولهذا نجح في إتمامها.
عاد بنيامين إلى أمريكا، وانتسب إلى أحدِ جامعاتِها، ولَمْ تَمضِ إلاَّ أسابيع قليلة حتى استقر، وبدأ الدِّراسة بشكلٍ جدي، وخلال هذه السنة تَعرَّف على أحد الصحفيين، الذين يعملون في صحيفةٍ صغيرة، وعن طريقه عرَّف بنيامين الصحيفةَ ببعض مقالاتِه، التي أعجبتهم، فقبلوه بينهم؛ ليعملَ معهم، فكان ذلك مُسعِدًا له رَغْمَ عدم شُهرتِها، ولكنَّه اعتبرها مرحلةً تدريبية في طريقِ الصَّحافة، آملاً أنْ يأتيَ اليوم الذي يستطيع فيه أنْ يُثبت نَجاحه، ويُحقق حُلمه في أن يكونَ مراسلاً، فالكتابة على الرغم من مَحبته لها، إلاَّ أنَّها كانت في مَرتبة ثانية بعد المراسلة.
وبين الدِّراسة والعمل أمضى بنيامين سنته الثانية والأولى له في أمريكا، ولما جاءت العطلة، عاد للقدس مُشتاقًا لها ولأهله بعد هذا الغياب، ولكنَّه فوجئ بنيةِ أهله على الانتقال إلى تل أبيب، وهذا بعد أنْ ماتت سارة أصبح مُمكِنًا؛ لأن أفخاي عاش في القُدس من أجل ابنته، فالآن وبعد مَوتِها، فلَم يَعُد له عذرٌ لبقائه فيها، خاصَّة أنَّ إلين زادت من طلبها له في الانتقال، بعد كشفها أنَّ سارة كانت السبب.
فلَمَّا ماتت لم يَعُد له العذر، فكان ذلك مُزعجًا لبنيامين؛ لأنَّه سيترك القدسَ، ولكن معرفته بتميُّز تل أبيب، وكونها عاصمةً لبلده، وخاصَّة أنَّه يريد العمل بالصَّحافة، ويتطلب ذلك وجُوده هناك، تَقَبَّل الأمر، وفعلاً ذهبت العائلة إلى تل أبيب، فكانت سعادةُ أفخاي وإلين كبيرةً جِدًّا، فهذا كان حلمهما، ولكن بنيامين تفاجأَ بشعوره لما دخلها، فضاق صَدرُه، وشعر بكآبة، ولم يحب هذه المدينة قطُّ، رَغْمَ ما فيها من تطوُّر وخدمات، ولم يسعد بها طوال الأيام، التي بَقِي فيها هناك.
وقبل أن يعودَ إلى أمريكا بأسبوع، جَهَّزَ نفسه؛ ليزورَ القدسَ مِمَّا أثار استغراب والديه، فلِمَ يعود إلى هناك، فتل أبيب أصبحت بلدَهم النهائي، فأخبرهم أنَّه يريد أن يلتقيَ هو وبعض أصدقائه، ويزور حائط "المبكي"، فردت أمه: حائط "المبكي"! ولِمَ تذهب إليه؟
• أريد زيارته فحسب، أليس هناك هيكل سليمان؟!
• وهل ترغب في أنْ تكونَ حاخامًا، أو من المتدينين المتطرفين؟
• وهل هؤلاء هم فقط من يَزورونه؟!
تنهَّدت الأمُّ، ثُمَّ قالت: أنا لا أحبُّ أن يهتمَّ ابني بهذه الأمور؛ يعني: لتكن عَلمانِيًّا أفضل.
• ألَم تُعلميني أنت هذا التديُّن، وأنت نفسُك مَن وضعتِني بمدرسة يهودية، وأنت مَن أرادت أن نزورَ الحائط بعد أنِ استعدناه من أعدائنا العرب؟
• هذا بداية فقط؛ لأُعلِّمك التعاليم الدينية المهمة؛ يعني: لمجرد أن تكون يهوديًّا، وذهبنا إلى الحائط؛ لتتعرَّف على الهيكل فحسب، ولكن الآن فلَمْ يَعُد داعٍ لذلك، ثُمَّ قل لي: أأنت تدخل المعبد؟ لا، فلِمَ أحببت حائط "المبكي" بالذات، فهو كأي معبد.
• على كُلٍّ، أنا سأسافر؛ لأرى أصدقائي، ولا داعِيَ لكلِّ هذا النقاش.
هنا تَكلَّم أفخاي الذي لم يشاركهما في نقاشهما: دعيه، فهو مَجبول على التخلُّف والتديُّن، فلم يفهمْ بنيامين ما قصد أبوه، ولِمَ يكلمه بهذه الألفاظ القاسية؟ فسأله:لم أفهم قَصدَك يا أبي، ولِمَ هذه الألفاظ غير اللائقة؟ كل هذا لأني أريد زيارة حائط "المبكي"، فردت إلين، وقد فهمت ما لمح إليه زوجُها: دعك من أبيك، فهو لم يكن مُتدينًا من قبل قطُّ، وهذا التديُّن تعلمته مني أنا؛ لأنِّي أهتم بالتدين نوعًا ما، فضحك بنيامين، وقال: نوعًا ما! هل هي مرتبة من مراتب التديُّن؟ على كُلٍّ، أنا لست مُتديِّنًا، ولكني أردت زيارتَه فحسب، والآن فأنا سئمت الجدالَ، وأذهب لأكمل تجهيزَ نفسي، فلما ذهب صرخت إلين في وجه زوجها: ما بك؟ ما هذا الغباء؟! وهل تريد أن تخبره عن أصله؟
• لقد سئمته، وكلما كبر صرت أشعرُ بأنه ليس يهوديًّا، ويعيش بيننا بلا سبب.
• ما هذا الهراء؟ أجننت؟ بنيامين ابننا وهو يهودي.
• إذًا اتركيه يذهب إلى حائط البُراق، كما يسمونه الذين ينتمي إليهم ابنك، فهو إنَّما يذهب إلى المسجدِ الأقصى عندهم، وعند ابنك أيضًا، ولا يذهب لحائط "المبكي".
• تبًّا لك ولكلامك، إن ما تنطق به هو الكذب، إنَّه ابني وأعرفه، وهو أحبَّ حائط "المبكي"؛ لأنَّه هيكل سليمان، ولأنه يهودي بكلِّ معنى الكلمة.
• كما تريدين، ولكن أذكرك بأنَّك ومن لحظات سألته: لِمَ لا يدخل للمعابد ويدخل حائط "المبكي" فقط، فأنا لم أجادل حمقاء مثلك لم ترضَ إلاَّ بطفل مسلم تأتي به إلى "إسرائيل".
طبعًا هذا الكلام أزعج إلين، وأخافها، ولكن ماذا بيدها لتعمله، فاستسلمت لِمَا تخبئه الأيام لها.
دخل بنيامين المسجدَ الأقصى من الناحية، التي يدخل منها اليهود، وكأنه يدخل أجملَ مكان بالنسبة له، فهو أحبَّ هذا المكان، وكان أليفًا له، مع جهله بسبب ذلك، ولكنه كان يفسر شعورَه بأنه هيكل سليمان، وفي هذه المرة أصبح أكثرَ اهتمامًا بالمسلمين، وصار يراقبهم وهو في مكانِه، وكيف هم في شُغل دائم بين صلاة، وقراءة قرآن، ودعاء.
ثم اقترب إلى حائط البُراق الذي يسميه "المبكي"، وصلى صلاتَه اليهودية، ثم عاد لمراقبة المسلمين طوالَ يومه هذا، فكان يستمع لأذانهم الجميل، ويشعر برهبة عند سماعه، ثُمَّ ينظر إلى المصلين الذين منذ قليل كانوا يُصلُّون فُرادى، فإذا بهم الآن يَجتمعون صَفًّا واحدًا وراء إمام واحد يفعلون الحركاتِ نفسَها، ويركعون ويسجدون جميعًا مُؤتمين بذلك الإمام.
فكانت المرة الأولى التي يرى فيها صلاة المسلمين، فكان لَها أثر في نفسه، وتساءل: هل هؤلاء يَختلفون أو يُبغضون بعضَهم بعد هذه الصَّلاة الموحدة والتراص فيها، وإن كانوا فعلاً يَختلفون، فهم لم يفقهوا معناها حَقًّا، ولَمَّا جاءت صلاة المغرب، فُوجِئ بنيامين بالإمام يَجهر بصَوتِه في قراءة القرآن، فسمع القرآن مَرَّة أخرى بعد فترة طويلة لَم يسمعْه فيها، فانشرح صدره، وتذكر بيت أم سليم، تلك المرأة التي لفظت أنفاسَها الأخيرة والشرطي اليهودي يَجرها أمام عينه، وتذكَّر عائلتها، وبدأ يستعيد من ذاكرته كُلَّ ما حدث معه، فشعر بضيق كبير لم يخرج منه إلاَّ حينما سمع القرآن من جديد؛ حيث أتت الصلاة الجهرية الأخرى، وهي صلاة العشاء، فعاد انشراح صدره إليه.
ولأنه تذكر عائلة أمَّ سليم، وأنَّهم رُحِّلوا إلى القدس الشرقية؛ حيث هو الآن، فلذلك قَرَّر أنْ يُحاول أن يرى سالِمًا قبل سفره، ولكنه وجد ذلك صعبًا، فالجامعة في عُطلة وهو لا يعلم عُنوانَ بيته، ولكنه تذكر أنَّ الغدَ هو يوم جمعة، وكما أخبره سالم أنَّ فيها صلاة مهمة لهم، وكون المسجد الأقصى مقدسًا عندهم، فلن يُصلي في غيره، فقَرَّر أن يُحاول رُؤيته بأن ينتظره، ولكن كيف سيراه بين الجموع الكبيرة، التي تأتي وتُصلي، إلاَّ أنَّه لن يستسلمَ، خاصَّةً أنَّ سالِمًا يأتي مبكرًا للصلاة، وعرف بذلك حينَ اعتذر عن لقائه في صباح أحدِ أيام الجمعة، مُبَرِّرًا ذلك بأنه يكون ساعَتَها في المسجد، فبقيت في باله، فقَرَّر المحاولة.
ولذلك عزم بنيامين أنْ يأتِيَ مُبكرًا قبل حدوث الزحام؛ لعله ينجح، وهذا ما فعله، وظل يرقب أكثرَ الأبواب، التي يدخل منها المسلمون، وهو كذلك حدث ما كان يُحِب، وفعلاً رأى سالِمًا، فطار فرحًا وكأنه يرى إنسانًا قريبًا وحبيبًا عليه، واقترب منه وسَلَّم عليه، فتعجب سالم لما رآه، وزاد استغرابه لَمَّا عرف أنَّه منذ زمن وهو ينتظره، فلم يتخيل عظمَ اهتمام بنيامين به، ولِمَ كل هذا الاهتمام والشوق الذي يظهر عليه؟ وكأنَّ سالِمًا يمثل لبنيامين شيئًا يبحث عنه، وكأنَّه كان الأمل له؛ لِيَصِلَ إلى غايةٍ يُريدها، وعلى كل حال حدث اللِّقاء، وتكلما طويلاً عن أخبارهما، ثم اتَّخذا موعدًا؛ ليكملا الحديث، عندما اقتربت صلاة الجمعة.
انتهت الصلاة، وذهب الشابَّان إلى بيت سالم، وبعد الغداء جلسا يتكلمان، فسأل بنيامين سالِمًا عن عيشته في القُدس، فرَدَّ سالِمٌ بألم: القدس الشرقية لم تَعُد تختلف عن الغربية مطلقًا، فهما مُحتلتان، فحالنا الآن في الشرقية بعد عُدوان 1967م، كحالنا سابقًا في الغربية، وكحال جميع إخواننا في أنحاء فلسطين، ففلسطين كلها مُحتلة اليوم، فكل يوم اعتقال، وهدم بيوت، وقتل، وهذا المسجد الأقصى بات معكم أيُّها اليهود، فمنذ متى كان يسمح لليهود ليدخلوا الأقصى، ولكن كما دخلت أنت يدخل أبناءُ شعبك، وأصبح أمرًا عادِيًّا دخولُكم ووقوفكم عند حائط البُراق، هذا الحائط الذي أسند نبينا r دابته التي حملته إلى المسجد الأقصى إليه، والآن تدَّعون أنه لكم.
• هذا ليس مسجدكم، بل هنا هيكل سليمان، وعلينا أن نستعيده، ونعيد بناءه، أمَّا عن الاعتقالات، والهدم، والقتل، فهذا لم أعدْ أرضى به.
• لو كنت منصفًا، لَمَا رضيت أن تكونَ إسرائيلِيًّا، ولا تكلمت بكلامهم.
• بل لأني مُنصف أتكلَّم ضِدَّ حكومتي وتَصرُّفاتِها، ولكن هذا لا يعني أنْ أتخلى عن معتقدي.
• هذا محل اختلافي معك.
• لنترك الخلافَ، ولأسألك عن دراستك وحالها، "هذه كانت طبيعة بنيامين، عندما لا يقدر على النِّقاش، يغيِّر الكلام بدعوى أنه لا يريد الخلاف".
• الحمد لله هي بأحسن حال، وأنا سأذهب إلى أمريكا بإذن الله في بَعثة؛ لأكمل تَخصُّصي هناك، فقد حصلت عليها؛ لتفوقي، وهذا ما يشعرني بالمسؤولية أكثر أمام بلدي، فسأذهب للدراسة، ثُمَّ أعود بحول الله لخدمة إخواني، وأعالج جرحى حروبكم الغبيَّة.
تفاجأ بنيامين بالخبر، ولكنَّه سُرَّ كثيرًا به، فصديقه الحبيب سيذهب معه، ويكون برفقته، خاصَّةً أنَّه عَلِمَ أنَّه في جامعته نفسها، فكان سالِمٌ الصديقَ الوحيد الذي يَثِقُ بنيامين به.
جَعَلَ بنيامين سفرَه مع سالم في الطائرة نفسها، وتَمنَّى لو يجلس معه في بيته، ولكنَّ سالِمًا لم يَرضَ، خاصَّة أن البيتَ موفَّر له مِن قِبَل البَعثة، والأهم من ذلك، فكيف يجلس في بيتِ يهودي يَحمل الهُوِيَّة الإسرائيلية.
كانت هذه السنة الرابعة لبنيامين في جامِعَتِه، وقد اعتادَ رُؤيةَ المحجبات؛ لوجودِهن بعددٍ لا بأسَ به في جامعته، ولكن كانت هناك فتاةٌ تلفت نظرَه لَمْ يَرَها من قبلُ، بل كانت السنة الأولى لرُؤيته لها، وكان الذي يلفتُ انتباهَه فيها زِيَّها الذي تلبسه، وطريقة حِجابِها، اللذين يُشبهان زِيَّ وطريقةَ حجاب تلك المرأة، التي كانت تأتيه في مَنامِه، غَيْرَ أنَّ تلك المرأة كانت كبيرةً في السن، وهذه صغيرة، فأثارت اهتمامه، وأصبح يُراقبها بشكلٍ مُتواصل، ويراقب تَصرُّفاتِها.
وفي إحدى الْمَرَّات التي كان يُراقبها فيها شَعَرَ أن وجهها مُصْفَرٌّ وكأنها متعبة، ثُمَّ قامت وكأنها تريد العودة إلى بيتها، فكانت تتمايل وتتأرجح وكأنَّها ستسقط على الأرض، وأراد أنْ يقومَ؛ ليُساعِدَها، ولكنَّه غَيَّر رأيه في آخر لحظة؛ خوفًا من أن يكونَ متوهِّمًا، وفجأة وهي تَمشي على هذه الحالة، فإذا بها تلقي بنفسها أمامَ سيارة، وهُيِّئَ له أنَّها تريد الانتحار، ولكنَّ السيارةَ لَم تكن مسرعة؛ لكونها في طريق الجامعة، فضربتها ضربةً بسيطة في جنبها، فسقطت على الأرض، ولكنَّ صاحِبَ السيارة بَدَلاً من أنْ يُسعفها هرب فارًّا بنفسه؛ خشية أن تكونَ قد ماتت.









عرض البوم صور ابو فتحي   رد مع اقتباس
قديم 06-12-2013, 05:29 PM   المشاركة رقم: 28
المعلومات
الكاتب:
ابو فتحي
اللقب:
مدير عام سابق
الرتبة


البيانات
التسجيل: Jun 2010
العضوية: 2821
المشاركات: 531 [+]
بمعدل : 0.11 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو فتحي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:
إرسال رسالة عبر Skype إلى ابو فتحي

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

ومنذ مجيء أم إسماعيل لبيت بنيامين عاد ليسمع الكلامَ الذي اشتاقت نفسه إليه دون اعترافه لنفسه بذلك، فهو لا يَجرؤ على مثل هذا الاعتراف، فقد سَمِعَ صوتَ القرآن من قبل أن يدخلَ إلى بيته بعد عودته من الجامعة، فانشرح صدرُه، وسُرَّ عندما دخل، ووَجَد أُمَّ إسماعيل تسمعه وهي تعمل، فعَلِمَ أنَّ هذا الصوت سيظل مرافقًا له في بيته، ولكنَّه عاد ليكذبَ على نفسه، ويقول: إنَّ سرورَه من نظافَةِ البيت، الذي لم يكن هكذا قطُّ، فهو لا يستطيع تنظيفه كما تنظفه أم إسماعيل، فأحيانًا كان يأتي بخادمة تُنظفه من وقت لآخر، ولكن الآن صار بيته نظيفًا دائمًا.
ولما رأته أم إسماعيل أغلقت آلةَ التسجيل، فلَمَّا سألها عن ذلك، قالت: أنا أسمعه وأنت بالخارج، فلا أحِبُّ إجبارَك على سماع ما لا ترغب، فقال لها: أنْ لا تُكرِّر ذلك مُدعِيًا أنَّه لا ينتبه لصوته، فلتأخذ حريتَها في السماع، ولتسمع ما تشاء، وهنا تذكَّر أمَّ سليم، التي سَمِعَ عندها القرآن أولَ مرة، ثم سألها: هل يجبر الإسلامُ المرأةَ على سماع القرآن وهي تعمل؟ فابتسمت من سؤاله وقالت: وكيف ذلك؟ لا طبعًا، فسَماعُ القرآن وتلاوته شيء تعبدي، ولكنَّه ليس مُقيدًا بوقت ولا هيئة، فتسمعه متى شئت، وكيفما شئت، وأنا أضعه؛ حتى لا أضيع وقتي، وأستثمره في كسب الحسنات، ولأحافظ على حفظي له؛ حتى لا أنساه.
فتفَهَّم بنيامين الأمرَ، ثُمَّ ذكر لها سببَ ظنه، وحكى لها عن أم سليم، وكيف تصنع صنيعها نفسَه؛ ولذلك شك في الأمر، ولكنَّه لم يُخبرها بأنَّها في فلسطين؛ حتى لا تعرف أنَّه إسرائيلي، ومن هذا اليوم صار بنيامين يسمع القرآن يَومِيًّا في بيته، حتى إنَّ جلوسَه في البيت أصبحَ أكثرَ بسبب كلِّ هذه الأمور، التي أضيفت له بمجيء هذه العائلة الصَّغيرة؛ لتعيش في بيته.
كانت ثقة بنيامين بأم إسماعيل كبيرةً، ولكنَّ هذه الثِّقة ازدادت لَمَّا دخل عليها يومًا وهي في مكتبه، والدم ينزف من كَفِّها، وولداها بجانبها خائفان، فلما سألها عما حدث، ذكرت له ما جرى معها عندما دخلت إلى البيت بعد عَودتِها من السوق، ففوجئت بلِصٍّ في مكتب بنيامين، وقد أنهى كسرَ خزنة المكتب، ولم يبقَ إلاَّ أن يأخذَ المال الذي فيها، فهجمت عليه بكرسي، وصارت تنادي صاحبَ البيت، وكأنَّه موجود؛ ليهيأ للسارق أنَّه بات في خطرٍ؛ لوجود صاحب البيت، فما كان منه إلاَّ أن دَفَع أمَّ إسماعيل، ولاذ بالفرار، فحاولت أمُّ إسماعيل الاستنادَ على طاولة المكتب، فكُسِرَ الزجاجُ الذي عليها، فدخلت قطعةٌ منه في كفها، وسَبَّب لها جرحًا عميقًا.
فهرع بنيامين إلى صيدلية البيت، وأتى بشاش ومُعقِّم فعَقَّم الجرح، ولَفَّه بالشاش، ثُمَّ قالت له أمُّ إسماعيل: تَفَقَّدِ المالَ، فقام بتفقُّده، فوجده كاملاً لم يأخذِ السارقُ منه شيئًا، فسألها: أتدركين قَدْرَ هذا المال وما يشتري لك؟ فردت: نعم، وكيف لا أدرك؟ ولكن لِمَ تسأل؟
• لو أنَّك أخذت هذا المال، ألاَ يكفيك أنت وولديك؟
• أعوذ بالله، هل تريدني أن آخذَ مالاً حرامًا، وأُربِّي به أبنائي؟
• ولكنَّ ولديك في حاجة، ولو أخذتِ المالَ، لن أستطيعَ أنْ أصِلَ إليك؟
• إنْ لَم تصل إلَيَّ ولن تصل الشرطةُ إلَيَّ، فعقاب ربي يصل أينما كنت، ويا بُنَيَّ، لو أني ربيت ولديَّ بمال حرام، فكيف يكونان ناصرين لدين الله خادمين له؟
• وهل تحتملين جوعهما في سبيل نصرة دينك؟
• لا أقبل الجوع فقط، بل أقبل كلَّ العذاب لي ولهما - على أنْ أعيشَ أنا وهما في مال حرام أو معصية لله.
• ولكني يهودي، أليس مالي حِلاًّ لكم؟
• ومن قال لك هذا، أو من خدعَك وكذب عليك، وقال لك هذا الكلام؟ بل السرقة حرام، سواء كانت من مسلم أم من غيره، فالله لا يقبل بالظلم.
فكانت هذه حادثة جديدة تضاف إلى سجل الحوادث، التي تبني شخصية بنيامين الجديدة.
ولكنَّ هذه الحالَ لم تدُم على بنيامين طويلاً؛ لأنَّ أم إسماعيل كشفت أمرَه وعرفت أنَّه إسرائيلي، فجُنَّ جنونُها، وغضبت كثيرًا؛ لغفلتها، ولكن ما زاد هذا الغضب والتوتر معرفتها أيضًا بكتاباتِه في الصَّحيفتين، وأنَّ شغلَه الشاغل هو مُعاداة دينها، وكيل الاتهامات له، فقرَّرت الرحيل من بيت هذا المعادي للإسلام، والإسرائيلي المحتل لبلد مسلم.
كانت صدمة بنيامين كبيرةً جِدًّا عندما عَلِمَ بنِيَّتِها، فهذا ما لم يكن يتمنَّاه قطُّ، فهذه العائلة صارت كأنَّها عائلته، ولا يتصور أن يأتي إلى البيت يومًا ولا يجدهم، فهم مَن جعلوا فيه الحيوية والدِّفء، فحاول بكل الطرق لثنيها عن قرارها، ولإقناعها بالعدول عن رأيها، ولكن بلا فائدة، وترجَّاها، وكرَّر الطلب كثيرًا، ولكنها بَقِيَتْ مُصِرَّة على موقفها.
لما جهزت أمُّ إسماعيل نفسها وولديها حملت حقيبتها لتخرج، فلما أيقن بنيامين أنَّها ذاهبة لا محالة، تكلم معها كآخر محاولة له قائلاً: لِمَ تذهبين؟ ما ذنبي أنا إن ولدت يهوديًّا، وحكى لها قصته، وكيف ترك ما يظن أنَّه وطنه؛ لأنَّه لم يقبل بصنيعهم، ثُمَّ قال: ألَم تعيشي معي، وتعلمي من أنا؟ فردت عليه وهي مستاءة: ومقالاتك التي تكتبُها الآن، أفُطِرْتَ عليها أيضًا، وعلى سب ديني ودين آبائي، أم هذه من أخلاقك التي اخترتها؟
• أنا لا أسب الدينَ، بل أتكلم عن رأيي في تعاليم الإسلام، فأرجوك ابقي، فأنت تعلمين كم أحبُّ الولدين.
• لا يمكن أن أبقى؛ لأخدمَ إسرائيليًّا يَحتل أرضًا مقدسة بالنسبة لي، وهل أُبقي ولديَّ؛ ليأكلا من مالك، لا يُمكن أنْ أبقِيَهما في بيت مَن عادى دينَهما.
• لِمَ أنتم هكذا جميعكم تُحاسبونني على يهوديتي؟ أنتم مَن جعلتموني أكره دينَكم؛ لأنَّكم بمجرد معرفتكم بيهوديتي تكرهونني وتُبعدونني عنكم، صدقيني يا أمَّ إسماعيل، أنا أحبُّك وأحب وَلَدَيكِ، وأحببت سالِمًا، وأحببت... وسكت، ثُم تابع قائلاً: فلِمَ تعاملونني بهذه الطريقة؟
• ربَّما أنت كنت لطيفًا معي ومع ولديَّ، ولكنَّ ديني أغلى مني ومن أبنائي، فإن أحسنت إِلَيَّ، فلن أخضعَ لك وأنت تسيء لديني؛ لأنَّك بذلك تسيء إلَيَّ.
• حسنًا، اعملي ما شئت، ولكن لأقدم لك شيئًا، واقبليه مني.
• وما هو؟
• لي جار أمريكي مسيحي أثِقُ به، فأرجوكِ حتى لا يضيع الولدان، اذهبي إليه وأنا واثق بأنه سيكرمك، فهو لديه عائلة، ويريد مربية لأولاده، فإن وافقتِ، أكلمه الآن، فوافقت وذهبت إلى ذلك البيت المجاور، فسَعِدَ بنيامين؛ لأنَّ الطفلين سيبقيان بجانبه، ولكنه جلس حزينًا بعد خروجهم من بيته، فقد أصبح البيتُ موحشًا حزينًا بعد ما كان مؤنسًا، تضحكُ جميعُ زواياه، فلم يعد صوتُ أم إسماعيل، ولا صوتُ ولديها يُسْمَع في هذا البيت.
ثُمَّ عاد وتذكَّر ما قاله لأمِّ إسماعيل عندما قال لها: إنَّه يُحبهم جميعًا، فسأل نفسه: أكنتَ تُريد أن تقول: إنَّك تُحب مريمَ؟ وكيف تحبها وهي مُسلمة؟ ثم ضعف وقال: نعم، فعلاً أشتاق إليها، فمُنذ زمنٍ لَم أرها، ثُمَّ قال: كفاك كذبًا، لو أنَّك تُحبها لم تؤذِها، وتسب دينها، فأنت آذيتَ كلَّ مَن أحبَبْتهم، وكل من قدم لك السعادة بكلامِك وإساءتك لدينهم، ولكنه قام؛ ليشغلَ نفسه بقراءة كتاب؛ لينتهي من أفكارِه التي لم تعجبه؛ لأنَّه كره أنْ يضعف، وقرَّر أن يستمر في حربه.
صار بنيامين يلتقي مع إسماعيل وسلوى بحديقة جاره، وهو عائد من عمله، ولكن أم إسماعيل كانت تضيِّق عليه، وتطلب من ولديها أن لا يكلماه؛ لأنَّه إسرائيلي، ولكنه ترجَّاها؛ لتتوقَّفَ عن ذلك، فهو لا يطمع في أكثرَ من أن يكلمهما دقائقَ، ويَجلب لهم بعضَ حلوى الأطفال والمأكولات، التي يُحبَّانها؛ ليرى فرحتهما، فصارت أم إسماعيل تتغاضى عن لقائه معهما؛ لأنها تَثِقُ في حبه لهما، فهي أصبحت تعرفه من خلال الأشهر القليلة التي خدمته فيها، فسُرَّ بنيامين كثيرًا؛ لتَكرار لقائه بالأطفال، وكان عندما يرى ضحكهما عندما يأتي لهما بالهدايا، يشعر بالسَّعادة، فيذكر كلامَ سالم عندما كان يتحدث له عن الأعمال الإنسانية، وكيف أنَّها تدخل السرورَ على قلب مَن يعملها، كما تدخله على قلب من يستفيد منها، فكان يقول لنفسه: إنَّه فعلاً بدأ يُدرك هذه المشاعر، فكم كان يشعر بالسَّعادة، كلما رأى سعادةَ هذين الطفلين الفقيرين!
وفي إحدى المَرَّات كان يَجلس مع إسماعيل، فرأته أمُّه وطلبت منه أن لا يتأخر، فقال بنيامين: أترى كيف تصنع أمك بي؟ فهي لا تريدني أن أراك، مع أني أحبك أنت وسلوى، فرد عليه إسماعيل بجواب لم يتوقعه حين قال: عندي فكرة لِمَ لا تُسْلم فتصبح مثلنا، فلا يَعُودَ لأمي سببٌ لمعاداتك؟ فرد بنيامين وهو متفاجئ من كلام هذا الطفل: أسلم؟! وكيف ذلك، فهل تريدني أن أترك ديني؟
• نعم، ولِمَ لا؟ فأنا قرأت كثيرًا عن الصحابة، فكلهم كانوا غيرَ مسلمين، ثم أسلموا.
• ولكن كيف أسلم وأترك دين آبائي؟
• الله أعطانا العقل، والإسلام دائمًا يُعلمنا أن لا نقلد آباءَنا، ونتفكر، ونبحث عن الحقِّ، ثُمَّ نؤمن بعد ذلك دون تأثير من آبائنا.
نظر بنيامين لهذا الطفل، وكيف لأول مرة يُطلب منه هذا الطلب؟ وممن؟ من طفل، ثُمَّ سأله: وهل أنت تترك دينَ آبائك؟
• مستحيل، وكيف أترك الإسلام؟
• إذًا فكيف تطلب مني أنْ أتركَ دينَ آبائي؟
• أنا لا أقول ذلك؛ لأنه دين آبائي، بل لأنه الإسلام، وأنا فكرت بعقلي، فوجدت أنَّه الدين الحق.
• (أوه) وكيف فكرت بعقلك؟ ثُمَّ بدأ يُحاول إثارَتَه؛ ليرى ما عنده، فقال: أنت رأيت والديك مسلمين فقلدتهما.
• لا، ليس صحيحًا، فلَمَّا سمعت من شيخي عن ضرورة التفكُّر، وعدم تقليد الآباء، فَكَّرت بعقلي، فوجدت أنَّ الإسلام هو ديني.
• وكيف ذلك؟
• عندما تفكر فيما حولك: السماء، والأرض، والشمس، وشروقها، وغروبها، وقدرة الله، تعلم أنَّ عليك أنْ تُؤمن به وحْدَه؛ لأنَّه هو القادر على كل شيء.
• أنت طفل ذكي، ولكن كيف تعلمتَ ذلك؟
• أنا أدرس عند شيخ في المسجد يُعلمني، وأنا أفكر أيضًا، فأقرر ما أعمل.
• ألا يشغلك ذلك عن دروسك؟
• لا طبعًا، فدُروسي ليست بأهمَّ من تعلم ديني؛ لأنَّ درسَ المسجد يُعلمني ما يوصلني إلى الجنَّة، هكذا علمتني أمي.
أثار كلامُ إسماعيل إعجابَ بنيامين، واحترم شجاعته على كلامه، ولكنه فهم كلامَه على أنه لم يكن ليقال إلاَّ لطفولته، فمثلاً سالم لَم يَجرؤ في يوم بدعوته إلى الإسلام، فكان يعتقد أنَّ سبب ذلك هو خوف المسلمين، فهُم لا يجرؤون أنْ يصارحوا أحدًا في هذا الموضوع، ويدعوه للإسلام، ولم يفهم ذلك بأنه احترامٌ منهم؛ لاختيار الشخص لدينه، لا لضعف المسلمين وخوفهم من قوة اليهود.
كانت موضوعات بنيامين في مقالاته تتكلم عن كُلِّ شيء في الإسلام: التعدُّد، والجهاد، والعبادات، والأخلاق، ولكنه لم يتناولِ الحجابَ قطُّ، وكلما أراد الإساءةَ له، تَذَكَّر المرأةَ في منامه، وأم سليم، ومريم، فلم يستطع الكتابةَ، وفي يوم قرَّر أن ينتصر على نفسه، وأن لا يضعف ويكسر هذا الرمز في نفسه؛ لأنَّه بدأ يدرك أن هذا الرمزَ مُؤثر فيه، وأبعد عواطِفَه كلها، وبدأ صياغة الكلمات المسيئة، واللائمة للحجاب، وأنَّه اضطهاد للمرأة، وحجز لحريتها، وليس حضارِيًّا ويدل على تخلُّف مَن يلبسه، ومن يسمح به، وغير ذلك من الكلمات الجارحة لكل محجبة، ونشرتها الصحيفة الكبرى التي يعمل فيها.
قرأت مريم هذه المقالةَ إضافةً لقراءتها كلَّ ما سبقها من مَقالات، فحزنت جِدًّا لما كتبه، كما كان يُحزِنُها كلُّ مقال يُسيء فيه بنيامين للإسلام، فقررت أن تفتح قلبها لأبيها، وتكلمه عن بنيامين وما يعمله من إساءات.
وفعلاً لَمَّا التقت مع أبيها مساءً، كلمته عما حدث لها، وكيف أنَّ بنيامين أصبح عَدوًّا للإسلام بعد كلامِها الأخير معه، فكانت المفاجأة بأنَّ أباها لامها جدًّا، وقال لها: لم يكن هناك داعٍ لكلِّ هذا الكلام الجارح، وكان يكفي أن تشرحَ موقفها، وأنه محتل، ولا تقدر أن تتعامل معه، لا أكثر، فلما سمعت مريم كلامَ والدها، قالت له باستحياء: ولكنَّه لم يكن ليتركني لو أنِّي قلت له ما تقول.
• ولِم؟ فهو لن يكلمك رغمًا عنك.
• ولكن - يا أبي - بنيامين يريد شيئًا غير ذلك.
• لم أفهم قصدك.
• يعني أقصد أنَّه يُكلمني كشاب لفتاة.
• الحقير، وهل كان يُزعجك أو يؤذيك، فقاطعته مريم وقالت: لا يا أبي، لم يُبدِ أيَّ إساءة، ولكني شعرت أنَّه كان يَوَدُّ أن يكلمني باستمرار، ويلتقي معي في الجامعة، فلَمَّا أحسست بهذا، قرَّرت أن أقطعَ عليه الطريقَ نِهائِيًّا، فقال أبو خالد: وبعدها هل آذاك؟
• لا، قطُّ، فلم أرَه على العكس، أظنُّ أني أصبحت عدوة له.
• إذًا هو لَم ينتقم من الإسلام؛ لأنَّه علمك هذه الأخلاق كما زعم.
• ما الذي تقصده؟
• هو نقم على الإسلام؛ لأنَّه فرَّق بينك وبينه.
• وهل يعقل هذا، ولكن هل هو مجنون ليفكر في مسلمة؟
• أنا سأذهب إلى بيته غدًا بإذن الله؛ لأحاولَ أن أكلمَه؛ لعَلَّه يبتعد عن إساءته للإسلام، خاصَّة بعدما كلمتِني عن قصته مع سالم.
• تذهب إليه! وما سبب ذلك؟ وماذا ستستفيد من ذَهابك، فلن يرد عليك؟
• لأوصل له رسالة أنَّنا لسنا نعاديه لشخصِه، بل لأنه محتل.
• وكيف تذهب إليه وأنت لا تعرف عنوانَ بيته؟
• ألا تذكرين لما ذهبتُ إليكِ في الجامعة مرة، ورأيته فتكلمت معه، ثم أوصلناه إلى بيته؟
• نعم، أذكر، ولكن لست مُقتنعة بكل هذا العمل، ولا أدري لِمَ أنت مهتم به إلى هذه الدرجة؟
• لا أدري، شيء غريب يشدني إليه، ولكن أتعجب كيف لقيته عِدَّة مرات ولم أعرف أنَّه يهودي، ولم أعرف حتى اسمه؟
• نعم، هو قَصَدَ أنْ لا يقول ذلك؛ حتى لا نعلمَ أنَّه يهودي، ولكن ما الذي يَجعلك مشدودًا له، ألِأَنَّه يشبهك؟
• وهل انتبهتِ لذلك؟
• نعم، هو يشبهك فعلاً.
• ولكنَّه يُشبه عَمَّك - رحمه الله - شبهًا كبيرًا، وربَّما لهذا شدّني.
• ولهذا السبب ظننت أنه عربي.
• رُبَّما، ولكني مُنزعِج من هذا الشُّعور، فمهما يكن يبقَ يهوديًّا.
• نعم، فعلاً، وعلينا أن ننتهي من التفكير فيه.
• الآن أريد رُؤيته وبعدها أقرر إن شاء الله.
وفي هذه الليلة نفسها التي تَجَرَّأ فيها على الحجاب، الذي يُؤثر فيه كثيرًا، رأى في نومه تلك المرأةَ التي كانت دائمًا تأتي مبتسمة له، ولكن هذه المرأة رآها وهي حزينة، وتنظر إليه وهي تُمسِك بحجابِها وكأنَّها خائفة عليه، فقام بنيامين فزعًا من هذا المنام، ثُمَّ قال لنفسه: لِمَ أزعجت هذه المرأةَ التي دائمًا ما أراها وآنس برؤيتها؟ ثم نهض من سريره؛ لأنَّه لم يستطعِ النومَ من جديد، وأعاد قراءةَ مقالته، فضاق صدره أكثرَ لَمَّا أحس بكَمِّ الكره الذي يحتويه هذا المقال.
وقبل أن يَخرج بنيامين إلى جامعته جاء أبو خالد إلى بيته، فسرَّ به، واستقبله أحسن الاستقبال، وبعد حديث طويل فتح أبو خالد موضوعَ العداوة للإسلام، الذي يتبناها بنيامين، فرَدَّ عليه بأنَّه حرٌّ بآرائه، وهو يتصرف على هذا الأساس، فلامه أبو خالد على هذه الحرية، التي تُؤذي الآخرين، وأنَّها ليست بحرية، بل تعديًا.
ثُم تحدث عن الإسلام ورحمته وعظمته، ولكنه شَعَرَ بأن ذلك لن يفيدَ، فأراد أن يدخل بالشيء الذي دفع بنيامين لهذا الصنيع، فقال له: إنَّ مريم حزينة جِدًّا لما فعله، وهي لم تكن تتوقع منه هذا الكلام، بل على العكس كانت تنتظر أن يكون داعيةَ سلام بعد معرفتها به لعدة أسابيع، ولكنَّ بنيامين رغم تأثُّره، كابَرَ وقال: لم تكن تتوقع مني!
إذًا لِمَ وصفَتْنِي بِكُلِّ تلك الصِّفات الخبيثة؟ هنا قَرَّر أبو خالد أنْ يكونَ صَريحًا جِدًّا، وأن يُوصل المعنى لبنيامين بشكلٍ جيد، ولكن دون أنْ يُصرِّح بالحقيقة كلها، فقال: لأقل لك - يا بنيامين - أنا ومريم قدرنا لك كُلَّ ما صنعته مع مريم، ونحترمك، ونشكرك على ذلك، ولكن مريم لما علمت أنَّك يهودي لَم تكن لتستوعبَ الصدمة، خاصَّة أنَّها تعلم اليهود وظلمهم لنا، وتكره أفعالهم، فأرادت أن تقول لك: إنَّ تَعامُلَها معك لم يَعُد مُمكنا؛ لأنك منهم، فلم تستطع؛ لأنَّك أحسنت لها.
فكونها فتاة فذلك يعني ضعفها، فلما كرهت ضعفَها، قررت أن تلبسَ ثوبًا ليس بثوبِها، فظهرت بهذه القَسْوة؛ لتنهي علاقَتَها بك نهائِيًّا، ولكن في الحقيقة هي ممتنة لك على كل ما عملته معها، فلما سمع بنيامين هذا الكلام، وفهمه جيدًا رغم تحفُّظ أبي خالد في كلامه، صُعِقَ به، إضافةً لتفاجُئِه لصراحة أبي خالد، فلم يبقَ كما فهم بنيامين إلاَّ أن يقول أبو خالد: إنَّ مريم تريده، فلما علمت استحالةَ حلمها، قاومته بكل هذه الشراسة.
فأثلج هذا الكلامُ صدرَ بنيامين وأراحه، رغمَ ما سببه له من ألَم، فمَريم بالنسبة له ما زالت مستحيلة، ولكنَّه على الأقل علم أنَّ مريم لا تَحتقره كما كان يظن، ولَمَّا لم يتكلم بنيامين، واكتفى بأفكاره، قام أبو خالد واستأذن، وقال وهو خارج: أرجو أن تعلم أنَّنا لم نُحاربك لشخصِك، ولكن إنْ حاربناك فلأنك إسرائيلي مُحتل لأرض مُقدسة عندنا، فرد بنيامين بألم: أفهم ذلك، فكلكم تتكلمون بالكلام نفسه، وأنا أقدر مشاعِرَكم، وحُبَّكم لمقدساتكم.
فشكره أبو خالد لتفهمه، ثم قال له بكل ثقة: أرجو أن تعيدَ النظرَ فيما تكتب، فأنت تُؤذي نفسَك لا أكثر، فالدين دين الله، ولن يُؤذى بكلامِ عبدٍ من عباده، فالله قادرٌ على أن يفعل به ما شاء، فمتى شاء أن ينتقمَ منك أو يوقفك، فعل، فكن على يقين أنَّ ذلك بيده، فلا تُعرِّض نفسَك لغضب الخالق، الذي أعلم أنَّك تؤمن به كخالق وكقدير، فدعك من الخوض في هذا الأمر، ولا تجهد نفسَك في عداوةِ مَن لا تستطيع النَّصْرَ عليه، ثُمَّ ثِقْ بأنَّ هدفك في أذية المسلمين من خلال شتائمك واتهاماتك لن يتحقق؛ لأنَّ المسلمين يؤمنون بأنَّ هذه الأذية سُنَّة من سُنَنِ الله، وهم على العكس، فبدلاً من أن يَخافوا منها، ينتظرون منها الفتح، فبكلامكم عن ديننا ومُعاداته تدفعون الكثير؛ ليعرفَ هذا الدين أكثر، ثم ما يلبثون أنْ يُسلموا، فهذا هو اختيارُ الله لنا ونحن نرضى به، نؤذَى ثم يأتي الفتح.
خرج أبو خالد وكله تفاؤل أن تكونَ كلماتُه أثَّرت في هذا الشاب، الذي لم يكن يتمنى أن يستمر على هذا الطريق، رَغْمَ عدم معرفته بسِرِّ ذلك الشعور الذي يشعر به؛ ولذلك بدأ يسألُ نفسه: لِمَ يهتم بهذا الشاب، وحمل نفسه وجاء لبيته وكلمه؟ هل فعلاً ليوقفه عن الإساءة للدين؟ وهذا شيء يتمنَّاه بداهَةً، ولكن هناك الكثير ممن يُسيئون للإسلام، ويعلم يقينًا أنَّه لا يقدر أن يُوقفهم، فلماذا حاول مع هذا الشاب؟ وهل سيؤثر فيه فعلاً؟ ولِمَ يشعر بأنه خائف على هذا الشاب؟ ولكن كل هذه الأسئلة لم يَجدْ لها جوابًا؛ لذلك حاول أن يهرب منها.
أما بنيامين، فجلس بعد خروج أبي خالد يُفكر فيما دار بينهما، وشعر بأن مريم تتعذب كما يتعذب، ثُمَّ فكر في حزن تلك المرأة في منامه، وفي القلادة وكيف أنَّه لم يعمل أيَّ شيء في سبيل معرفة لُغزها، فقَرَّر أن يذهبَ إلى مَن يعتقد أنَّها المعين له، والتي يَثِقُ بها ثقةً عمياء رغم ما حدث بينه وبينها، وهي مريم، فيطلب منها أنْ تُخبره ما النقش الذي في القلادة؟ ولكنَّه تردَّد وخاف، وكيف سيكشف سِرًّا مخبأ منذ أكثرَ من عشرين سنة، وهو لا يعرفه، ولا يعرف إن كان من مصلحته أنْ يَعْرفه أم لا.
فعاد إلى ذاكرته كلماتُ أبي خالد الأخيرة عن اختيار الله، فتذكر كلامَ سالم عندما قال له: إنَّه سيطلب الاختيارَ من الله، فجلس خاشعًا بين يدي ربه قائلاً: يا رب، أكلمك أنت وحْدَك من بيدك كل أمر، ومن خلقت، ومن تقدر على كل شيء أنْ تَختار لي الخير كما تعلمت من سالم، فأنت ربه وربي اختر لي، هل أُطْلِع مريمَ على النقش، أو هل فيه سِرٌّ لا ينبغي أن يعرِفَه أحد، يا رب، ما الخير لي؟ دلني يا رب.
فكانت هذه الكلمات كأنَّها إعلان منه بلحظةِ ضَعْفٍ وإقرار بوحدانية الله واحتياجه له، فهو قد كلم ربًّا واحدًا على غير عادته؛ لِمَا يشرك به غيره، بل أراد أن يطلبَ مِمَّن يُؤمن بقدرته وقُوَّتِه وعلمه، لا مِمَّن يشركهم معه، وبعد أن أنْهَى دعاءه رَبَّه، خرج وهو يقصد مريمَ التي يَثِقُ بها، خاصَّة أنه تأكَّد اليومَ من أنَّها لم تكن تقصد بكلامها شخصه، بل قصدت استحالةَ علاقتهما؛ بسبب يهوديته، ولما أساءت لَم تُسِئْ إلاَّ لأعمال مَن ينتمي لهم من الإسرائيليِّين، فوَضَعَ القلادةَ في جيبه؛ حتى لا تظهر أنَّها له، ولَمَّا وصل الجامعة، ذهب إلى المكان الذي يُمكن أن توجد فيه، وكان متلهِّفًا لرُؤيتها، فهو لم يَرَها منذ شهور، فلما رآها سار باتجاهها، ففُوجئت لرُؤيته، وقالت بينها وبين نفسها: يا إلهي! هل عاد لمحاولاته؟ أيعقل أنَّ ذَهابَ أبي له شجعه على العودة؟ سامَحك الله يا أبي، كنت مرتاحة.
ولكن ما يمكن أن يكون الحديث الذي دار بينهما؛ حتى يعود ويكلمني بعد كلامي الجارح له في آخر لقاء، وهنا وصل بنيامين ولَمَّا صار أمامها، وَقَف ولم يتكلم، فهي مِنْ ثَمَّ لم تتكلم، ولَمَّا طال الأمر على هذه الحال، شَعَرت أنَّ وقوفهما لم يَعُدْ مَقبولاً، فقالت: نعم، ما الذي تريده؟ فسكت قليلاً، ثُمَّ قال بجديةٍ تشبه جديتها: كما قلت لك آخر مرة، أريد المساعدة، ولن أستحي من حاجتي؛ ولذلك جئت اليوم.
• ولكن ما الذي يمكن أن أقدمه لك؟!
فأخرج القلادةَ من جيبه، ثم قال: هذه القلادة وجدتها، وعندما فتحتها وجدت فيها نقشًا عَربِيًّا، ولم أَثِقْ بأيِّ أحد لأسأله عن هذا النَّقش، وفي النهاية اخترتك أنت.
• ولكن أليست هي القلادة نفسها التي كنت تلبسها من قبل؟
هنا علم أنَّها رأته وهو يلبسها، ولكنه أراد الإصرارَ على أنَّها ليس له فقال: نعم، وجدتها منذ زمن، ولكن كما قلت لك: أبحث عن مَن أثق به؛ ليترجم لي.
• ولماذا يَجِب أن يكونَ ممن تَثِقُ بهم؟ فأيُّ شخص عربي يُمكن أن يترجم لك.
• لا، فأنا لا أعلم ما يمكن أن يكون، ولذلك عليَّ أن أثِقَ بمن يترجمها، حتى إن كان فيها ما يُخيف ولا يضرني، وتعلمين أنَّهم سيتهمونني بأنَّ هذه القلادة لي، فتبسمت مريم، ثُمَّ قالت: يا إلهي! إلى هذا الحد تَخاف من العربِ حتى من نقشٍ على قلادة؟! فما يُمكن أن يكونَ هذا النقش أكثر من كلمات عربية أحبَّ صاحِبُها أن ينقشَها لا أكثر، فانزعج بنيامين من قولها، وقال بغضب: كفاك إساءَة يا مريم، فأنا لم أُسِئْ لك قطُّ، وكل القصة أنِّي لا أقدر أن أتخيل ما يمكن أن يكون هذا النقش؟
• على كلٍّ أصبح عندي فضول؛ لأعرفَ الكلام المنقوش، فأعطني إيَّاها؛ لأرى ما فيها.
فتح بنيامين القلادةَ ثُمَّ أعطاها إيَّاها، فلما نظرت على النقش تغيَّر وجهُها، وفوجئت مفاجأة كبرى، الأمر الذي أقلق بنيامين لَمَّا رأى تغيُّر وجهها، فسألها بلهفة: ماذا وجدت؟ وما زال الحديث طبعًا حديثَ أعداء، وبكلِّ برود ردت عليه بسؤال قائلةً: أين وجدت هذه القلادة؟
• وجدتها في بلدي.
• تقصد هنا في أمريكا؟
أراد بنيامين هنا أن يوصلَ لها رسالةً أنه ما زال يفتخر بما يظُنُّ أنَّه وطنه، وكأنه فقط يريد إثارَتَها وإزعاجها؛ ليبدوَ أنه لم يأتِ إليها إلا لمصلحة، فقال: أقصد بلدي ووطني "إسرائيل".
• بل تقصد فلسطين، وهذا لا جدال فيه، ولكني لن أطيلَ معك، فليس لدي وقت لأتكلم مع أمثالك، والآن هل حاولت إيجاد صاحِبَها؟ فلم يعلق على إساءَتِها الجديدة، بل رَدَّ على سؤالها وقال: ليس لها صاحب؛ لأني حاولت، ولكن دون فائدة، ولكن لَمْ تَقولي لي ما النقش؟
• النقشُ لا يفيدك، ولكن سأكلمك بما يُفيدك وهو المال، فأنا أريد شِراءَها منك، فقل لي: كم تريد؟
• إلى هذه الدرجة أعجبك النقشُ؟
• ليس قصة إعجاب، ولكنَّه لا يهمك، فأنا أدفع لك ضِعْفَ ثَمنها، أو ثلاثة أضعاف، وإن شئت أربعة أضعاف.
• (أوه) ألهذا الحد يستحقُّ النقش؟! أشعرتِني بأنَّ النقش يَحْوي كَنْزًا، فضحكت مريم بسخرية، وقالت: وهل نحن في فيلم للأطفال؟
• إذًا لِمَ تريدين شراءَها إن لم تكن مهمة؟
• أريد أن أُهديها لأخي الأصغر لما ينجح، فضَحِكَ كثيرًا قاصِدًا إغاظتها، ثُمَّ قال: تُهديها لأخيك، وما هذا التخلُّف؟ كنت أظنُّ أنك ستُهدينها لصديقك أو حبيبك، فردت عليه بغضب جعله يشعر وكأنه نطق بأسوأ الألفاظ؛ حيث قالت له: اخرس أيها المعتوه، أنت قليل الأدب، وغير محترم، ولِمَ الكلامُ معك، فأنت فعلاً يهودي؟
• أحذرك للمرة الألف، لا تسخري مِنِّي ولا من ديني، ولا من بلدي، كفاك يا مريم، احذري كي لا أزعجك.
تزعجني! يا لَلعجب! أتريدني أن أسكتَ وأنت تتجرَّأ وتهينني وتتهمُني بما يسيء إلَيَّ كمُسلمة، ويُسيء لأخلاقي كفتاة، ثُمَّ هل إلى هذا الحد غريب بقاموس علاقاتكم أنْ تُهدي الأختُ أخاها، والهدية عندكم فقط بين الصديق وصديقته؟
سكت بنيامين وتذكَّر ماري لَمَّا سألها: هل هي عذراء؟ فاستشاطت غضبًا، كحال مريم، وتساءل: لو أنه سأل مريم اليوم هذا السؤال، ما الذي كان يمكن أن تفعله؟! فجاوب نفسه: إنَّها ربَّما جعلته بين الأموات، فضَحِكَ ضحكة خفية، ثُمَّ عاد لموضوعه الأساسي، وقال لها: وفي النهاية، أنتِ لا ترغبين بإخباري ما هذا النقش؟ إذًا هاتِها.
• خُذها ما دمت خائفًا عليها هكذا، أنا فقط أحبَبْتُها، وأردت شراءَها، فإن وافقتَ فأنا مستعدة في أي وقت.
• لأقل لك كلامًا نِهائِيًّا حتى لا تناقشيني بعدها، هذه القلادة قلادتي، ولن أبيعها بمالِ الأرض.
• هل تظن أنَّ فيها كَنْزًا فعلاً، وافرض ذلك، فمهما كان الكنز لن يُساوي مالَ الأرض أبدًا، ولكنَّ نقشَها بالنسبة لي، فمال الأرض لا يساوي شيئًا أمامَه.
• أنا لم أقل عن الكنز إلاَّ بعد رُؤيتي لاهتمامك الشديد بها، والآن أصبحت أكثرَ شوقًا؛ لأَعْرِفَ ما هذا النقش؟ فما يمكن أن يكون إن كان مالُ الأرض لا يساوي شيئًا عنده.
• ولكن بالنسبة لكَ لا يُساوي النقشُ شيئًا، فصدقني لن يفيدك.
• يعني وبالمختصر أنَّك لا تريدين إخباري عنه، ولذلك أشكُرُكِ، وأستأذن، فلما أدار ظهرَه يريد الذَّهابَ مُنزعِجًا من تصرُّفها غير المبرر بالنسبة له، قالت بكل برود: "يا محمد، أنت مسلم"، فاستدار، ونظر إليها، وقال: ما الذي قلتِه؟ لم أفهم... من محمد؟!
• النقشُ هكذا "يا محمد، أنت مسلم"، فلَمَّا سَمِعَ ما قالت، صار يرجف وشل لسانه، ولم يَعُدْ يقدر على الكلام، ونشف الريقُ في فمه، ثُمَّ عاد ليسألَها والكلمات ترجفُ وهي خارجة من فمه: ماذا؟ ما النقش؟
• ما بك؟ قلت لك: إنَّه لن يُفيدَك، فهذه قلادةٌ عربية نقش صاحبُها عليها هذا النقش: "يا محمد، أنت مسلم"، وهنا لم يَعُد بنيامين ينطقُ بكلمة لوقتٍ طويل، ثم إنَّه لم يعد يرى أحدًا من حوله حتى مريم؛ ولذلك ما لَبِثَ أنْ تَرَكها دون أن يستأذِنَها، أو يسلم عليها، وأصبح يَمشي كالتائه، لا يعرفُ لِمَ يَمشي؟ ولا إلى أين يَمشي؟ فاستغربت مريم تصرُّفَه، ولكنها فسَّرَتْه على أنه انزعج؛ لمعرفته أنَّ هذه القلادة تدل على أنَّها لمسلم، والنقش حمل اسمَ النبي r ولكنَّها عادت، وسألت نفسها: لِمَ لم يَبِعْها إن كان النقشُ لم يعجبه؟
عاد بنيامين إلى بيته وحبس نفسَه فيه، بل بغُرفَتِه خاصَّةً، لمدة يومين وليلتين في حالة ذهول، لا يقدر أنْ يعملَ فيها أيَّ شيء، حتى أنْ يُفكر، فقد شُل ذِهنه، وعجز عن التفكير، ولا يَسْمعُ في هذه الفترة، إلاَّ كلمةَ "يا محمد، أنت مسلم"، كانت هذه الكلمة تتردَّد، وتتردد دون أن يقدر على إيقافها وهو مُستلقٍ على سريره، لا يقدر على الحَرَاكِ؛ بسبب عَجْزِه عن تفسير ما حدث له، وبعد نِهَاية اليومين أفاق من دهشته، وقام وأكل لُقَيْمَات؛ لأنَّه شعر بعد إفاقته بانهيار جسمه من الجوع، ثُمَّ عمل كأسًا من الشاي، وجلس يعيد شريطَ حياته كلها، وبدأ يفكر في كلِّ الأحداث المهمة، التي مَرَّت به؛ ليستطيعَ تفسير ما حدث معه، وصار يتساءل: لِمَ أحبَّ هذه القلادة؟ ولِمَ رافقته طوال حياته؟ فهي لم تفارقه إحدى وعشرين سنة.
ثم لِمَ كان أهله يكرهونها، خاصَّة أمه، رَغْمَ أنَّها هي من اشترتها، كما كانت تقول؟ ثم تذكَّّر كلامَ رفاقه دائمًا معه عندما كانوا يعجبون من تصرُّفاته، عندما كانوا يتحدثون عن اختلافه عن اليهود، ثم القرآن وتأثره به عندما سمعه في بيت أم سليم، وتذكَّر المرأة المحجبة في منامه، وكيف يسعد كلما رآها، وسالم ومريم وكل ما حدث معه من كره لأعمال اليهود، وتأثيره على كثير من المسلمين، وهو في خِضَمِّ هذا التفكير قفز إلى ذهنه دخولُه لأول مرة المسجد الأقصى، وشعوره آنذاك بسكينة وراحة، وحبه لحائط المبكي كما يسميه، وحبه لزيارته دائمًا، وتساءل: هل أحبه؛ لأنَّه المبكي أو لأنه البراق؟
ثم فكر في مقالاته الأخيرة وعدائه للإسلام وانزعاج المرأة في منامه، ثم سأل نفسَه: مَن يكون؟ وما حقيقته؟ ولِمَ يحمل يهوديٌّ قلادةَ مسلم، وترافقه لسنين عديدة؟ وبَقِيَ هكذا لساعاتٍ كثيرة، ولما عجز عن الإجابة عن تساؤلاتِه، استسلم لتعبه، ونام بعد أنْ فارَقَه النوم لأكثرَ من يومين، فعادت إليه تلك المرأة، واقتربت منه، وربتَتْ على كتفه، وابتسمت له، فقام من نومه بعدها، وما أنْ تذكر المنام، حتى انفجرَ بالبُكاء وكأنه يُفرِّج عن نفسه العاجزة أنْ تعملَ أيَّ شيء، ويخرج ما فيها من مشاعر مكبوتة منذ أيام، واستمر على ذلك لوقت طويل.
في هذا الصباح المحزن لبنيامين اتَّصلت إلين به، وأخبرته أنَّها وزوجها سيخرجان الآن إلى المطار؛ ليذهبا إليه، فكان هذا الخبر مُفاجأة لبنيامين، لَم يكن يتوقَّعها إلاَّ أنه سُرَّ بها، فهو الآن في ضيق، ويَحتاج لمن يكون معه، ومن أقرب من أمه وأبيه ليقفان معه في هذه المحنة، إضافة لأنَّه يَحتاج أن يسألهما عن سِرِّ هذه القلادة.
وصل الوالدان واستقبلهما بنيامين بسعادةٍ كبرى، وكانت زيارتُهما في هذا الوقت بمثابة استعادة الحياة لبنيامين، بعد أن كاد يَموت من ثِقَلِ ما وقع عليه، خاصَّة أنه عاجز عن تفسيره.
في المساء وبعد أنِ ارتاحَ الأبوان وارتاحت نفسية بنيامين أيضًا برُؤيته والديه اللذين اشتاق لهما كثيرًا، جلست العائلة في الحديقة، وبعد حديثٍ تضمَّن مواضيعَ مُختلفة سأل بنيامين أمَّه: من أينَ اشترت له القلادة؟ فاستغربت إلين السؤال، وفُوجئت به، إضِافة إلى انزعاجها من قصة القلادة، التي تُلاحقها كُلَّ هذه السنين، ولا تجد لها حلاًّ تتخلص به منها، فهي باتت على قناعة أنَّ هذه القلادة هي صِلَةُ الوصل بين بنيامين وأصله، ثُمَّ ردت عليه قائلةً: ولِمَ تسأل هذا السؤال الآن؟
لأعرف - فقط - هل هذا سِر حتى لا أسأل عنه؟
• لا، ليس سِرًّا، ولكني لا أذكر، وكيف أذكر شيئًا حدث منذ أكثر من عشرين سنة.
• هذا حدث يفترض أنَّه مهم، فهذه هدية لابنك، ولهذا يجب أنْ لا يُنسى، فثار غضبُها؛ بسَبَبِ زيادة اهتمامه بها، وقالت وهي تصرخ في وجهه: كفاك غباءً، واتركْ تلك القلادة المشؤومة، صرت أكرهها، وأكرهُ الحديث عنها، بل صرت أكره بقاءَها معك... ما بك؟ وما الذي عملتْه هذه القلادة البغيضة لعقلك، حتى صرت توليها كلَّ هذا الاهتمام؟!
وهنا صرخ أفخاي أيضًا: قلت لك من ساعة إيجادنا لهذه القلادة المشؤومة: ارميها، وتَخلَّصي منها، فهي تدل على العرب والمسلمين، وشُؤمها سيظهر علينا، ولكنَّك لم تُصغي لكلامي، فتفاجأ بنيامين من كلام أبيه؛ حيث إنَّه كان يعتقد أنَّها هدية من أمه، والآن يكتشف أنَّهما وجداها، فصرخ في وجه أمه لائمًا لها: وجدتِها: هل هذا صحيح؟ أكنت تكذبين على ابنك، وتقولين: إنَّها هدية؟ والآن أكتشف أنَّها ليست إلاَّ قلادة مرمية في الشارع وجدتِها وتركتِني أتعلق بها، فردت إلين وهي تشعر بالحرج: وما الفرق؟ أنا لما وجدتها وددت أنْ أخُصَّك بها، وهكذا أكون كأنِّي اشتريتُها لك خاصَّة، والمهم الآن أنك عرفت أنَّها مجرد قلادة، فارمِها وتَخلَّص منها.
• هكذا بكل بساطة تتكلمين وكأنَّك لم تعملي شيئًا، وكيف أصدقك الآن، فرُبَّما كما كذبتِ عليَّ طوال السنين الماضية تكذبين عليَّ الآن، وما أدري ما يُمكن أن تكونَ قصة هذه القلادة؟ فما أن سَمِعت الأمُّ هذا الكلام حتى ارتعبت، فكلام ابنها تغيَّر، وأصبح يشك أنَّ لهذه القلادة سِرًّا، فاليوم يشك وغدًا لا تدري ما سيعمل، أو يقول لها عن هذه القلادة، فجُنَّ جنونها من هذا التفكير، وخافت خوفًا شديدًا، فصاحت به ليعطيها هذه القلادة، وأعادت الطلب مرَّات عديدة.
ولكن بنيامين لم يقبل أنْ يعطيها قلادتَه، وصرخ بها أنَّها قلادته، ولا يُمكن أن يتخلى عنها، فما كان منها إلاَّ أن هجمت عليه، وأرادت سحبَ القلادة من رقبته، وكادت أن تقطعها لولا أنَّ بنيامين قاومها وأبعدها، إضافةً لتهدئة أفخاي لها وإبعادها عن بنيامين، فصارت تشتم القلادةَ، وتسبها بأقسى الألفاظ، وتتوعد بأنْ تتخلَّص منها بأي طريقة.
خاف بنيامين على قلادته، فخَبَّأَها؛ لأنَّه أخذ تَهديد أمِّه على مَحمل الجد، ولكنه بات على يقين بعد هذه الحادثة أنَّ لهذه القلادةِ قصةً، ولا بد أن يعرفها يومًا ما.
أمَّا أمه، فلم تستطعْ إكمالَ إجازتِها في أمريكا بعد شجارها مع ولدها، وأصرَّت على العَودة إلى تل أبيب، فسافرت مع زوجها بعد يومين فقط، وتركا بنيامين وحدَه في صراعه مع كل ما يَحدث له، ولكنَّه ارتاح لسَفَرِهما؛ ليكونَ أكثرَ حُرية في بَحثه.
تذكر بنيامين كلامَ أغلب من حوله عن شكله، وأنَّه أبعد ما يكون عن الشكل الأمريكي، فزادت شكوكه أكثر، ولكنه ترك هذه الأفكار، واستسلم بدايةً لقول أمه: إنَّها وجدتها، فقال لنفسه: إنَّها مُجرد قلادة لعربي، ووجدتْها أمُّه، ثم تعلق بها؛ لاعتقاده أنَّها هدية من أمه، ولم يقُل ذلك إلاَّ ليقاومَ تلك الأفكار، التي أتعبته، فما يعني أنْ يتذكرَ أنه يشبه العرب، إلاَّ أن يكونَ هو فعلاً عربي، وأن أمه وأباه ليسا بأم ولا أب له، حتى هو نفسه بذلك يكون ليس هو، وهذا كله لم يقدر على استيعابه، فأراد أن يهربَ من كل ذلك باتِّكاله على كلامِ أمه، وبَقِيَ يقاوم هذه الأفكارَ عِدَّة أيام، ولكنه في النهاية لم يَعُد يَحتمل شكوكه التي بقيت تراوده، وعزم من جديد أن يبحثَ عن الحقيقة بكل ما أوتي من قوة.
بدأ يُفكِّر فيما يُمكن أن يكون السبيل لذلك، ويستعرض عِدَّة حلول لكيفية مَعرفة سِرِّ القلادة، وبعد تفكير طويل تذكَّر أوراقَ والده القديمة، حتى ولو بَدَا بهذه الفكرة، كالغريق الذي يتعلَّق بقشة، ولكنه برَّر لنفسه أنَّه رُبَّما يَجِد بين هذه الأوراق مصدرَ هذه القلادة، أو محل بيعها، أو أي شيء عنها، وما أن خطرت بباله هذه الفكرة واقتنع بها، حتى بادر إلى الصُّعود إلى سقيفة المنزل المرمي فيها كلُّ ما هو قديم، وجلس بين الأوراق يبحث وكأنَّه يبحث عن كنز؛ لعَلَّه يجد ما يدله على شيء يُفيده، ولَمْ يبقَ شيء إلاَّ تفحصه، ولا ورقة إلاَّ عرف ما فيها.
وهو على هذه الحال وقع بين يديه تقريرٌ طبي، فأراد أن يرمِيَه؛ لعدم حاجته له، لولا أنَّه رأى كلمة عُقم في هذه الورقة، فلفتت نظرَه، فبدأ يقرؤها، فإذا هذه الورقة عبارة عن تقرير طبي يُثبت عُقمَ والدتِه، وعدم قدرتِها على الإنجاب، وهو بسنة 1947؛ أي: قبل وقتٍ قصير من ولادته، فأسقط في يده ولم يعُد يعرف ماذا يفعل؟ أيعقل أنَّ أمَّه لا تُنجب، فكيف هي أمه؟ وإن لم تكن أمه، فمن أمه؟ ومن أبوه؟
فبما أنَّ إلين ليست أمه، فبالتأكيد أفخاي ليس بأبيه، حتى وإن كان ينجب، فدائمًا كانت إلين أكثرَ حنانًا من أفخاي، فمِنْ ثَمَّ من المؤكد أن أفخاي ليس بأبيه أيضًا، فاحتفظ بالتقرير والألم يعتصر قلبه، والدنيا ضاقت في وجهه، فكيف خُدِعَ كلَّ تلك السنين؟ وكيف عاش مع أبوين ليسا بأبويه؟ وهل من المعقول أنه مسلم، واسمه محمد؟ وهل كان يُعادي دينَه الحقيقي، أو كل هذا وهم يعيشه، والتقرير كان مُخطِئًا، وحملت أمه بعدها وأنجبته؟!
كانت كل هذه الأحداث تنزل كالصَّواعق على قلب بنيامين، وصار الألم رفيقًا له، والكآبة تُغطِّي وجهَه، وكان لا يَدري أين يذهب؟ وكيف يواجه مصيرَه المؤلم والمجهول؟ ومَن يُمكن أن يُخفِّف عنه بهذه الساعة، فخرج من البيت الذي لم يعُد يسعه؛ عله يجد في الهواء الطلق متنفسًا له، فما أن خرج حتى سَمِعَ صوتا يناديه، فالتفتَ فإذا بإسماعيل.
فقال لنفسه: وما يصنع لي هذا الغلام؟! فأراد أن لا يهتم لندائه، ولكنه غيَّر رأيه، وعاد إليه آملاً أن يَجد السكينة معه، فلَمَّا اقترب منه، فإذا بالغلام يركض نحوه بلهفة، وكأنَّه لم يره منذ شهور، فسلم عليه، وبدأ يُحدثه عن اشتياقه له، وكيف يتركه لأيام لا يراه فيها دون أن يَمر عليه، فشعر بنيامين بالسَّعادة لما رأى شوقَ إسماعيل له، وشعر بأنَّه ليس وحيدًا، بل هناك من يُحِبُّه، ولا يَجد نفسَه غريبًا معه، حاله كحال أي إنسان ضعيف مُحتاج يَقْوَى بأيِّ كلمة يسمعها، أو موقف بسيط يحدث له.
فاعتذر بنيامين لإسماعيل؛ لغيابه، وجلس يكلمه متناسِيًا هَمَّه، وكانت لهذه الجلسة أثرُها الإيجابي؛ لترتاحَ نفسيته، ولو قليلاً، ثُمَّ مَرَّ أحدُ جيران بنيامين، فبدأ يكلمه ويسلم عليه، وانشغل معه دقائقَ عن إسماعيل، ولما عاد وجد إسماعيلَ يُردِّد كلماتٍ عربية، فسأله: ماذا يقول، فرد إسماعيل: أردِّد الآيات التي حفظتها اليومَ؛ لأثبّت حفظها.
• هل تقصد أنه قرآن؟ ولكن القرآن الذي سمعته أحيانًا ليس هكذا، فهل هناك عدة نسخ للقرآن؟
• لا، لا طبعًا كيف هذا؟ فالقرآن محفوظ ليس فيه حرف فيه شك أو ريب، ولكني أقرؤه قراءة عادية وبسرعة؛ لتسميعه - فقط - ولم أكن أجَوِّده، ولو شئت لقرأت لك بالتجويد، فسترى أنه كما سمعته.
• نعم، اقرأ؛ لأرى، وهل فعلاً كما كنت أسمعه؟ فكانت هذه فرصة لبنيامين؛ ليسمعَ القرآن، خاصَّة في مثل هذه الحالة الكئيبة التي يَمر بها؛ لعَلَّها تُغادره، ويشعر بالراحة، فلما بدأ يقرأ إسماعيلُ آياتٍ من سورة مريم، السورة التي كان يَحفظها في تلك الأيام، فُوجئ بنيامين بصوتِ إسماعيل العذب والحنون، وما أن قرأ آياتٍ قليلة حتى بدأت دُموع بنيامين تسقُط على خديه، فخبأها عن إسماعيل، والتفت إلى الناحية الأخرى بحجة أنَّه انشغل بأمرٍ ما، فاعتقد إسماعيل أنَّ ذلك مُمِل لبنيامين، ولم يعد يَسمعه، فتوقَّف عن القراءة، فما كان من بنيامين إلاَّ أن سألَه بشكل مُباشر - ولم ينتظر - عن السبب الذي جعله يتوقف.
فذكر إسماعيلُ أنَّ السبب هو انشغاله عن القراءة، فطلب منه أن يستمرَّ، وقال له: إنَّه على العكس يسمع جيدًا، ثُم برَّر طلبه وسبب سماعه يعود لصوتِ إسماعيل العذب، ثم إنَّه لم يتأكد أنَّه قرآن لسُرعة توقُّفه عن القراءة، فتابع إسماعيل القراءةَ حتى أتم الجزء الذي يَحفظه، ثم سأل بنيامين: أهكذا سَمِعت القرآن؟ فرَدَّ بنيامين أن نعم، ثُمَّ شكره على صوتِه الرائع، وأبدى إعجابَه الشديد به، ثُمَّ قال: إنَّه يُسعده أنْ يسمعَ صوته دائمًا، فشكره إسماعيل، واستأذن منه؛ لأنه تأخر على أمه وذهب.
أيقن بنيامين يقينًا تامًّا بعد هذه الجلسة أنَّ أصْلَه مُسلم، لا ريبَ في ذلك، وكان ذلك اليقين يُزعِجه، ويُثير استغرابَه، فكيف يتيقَّن من هذا الأمر، وحتى إن تيقن فما الذي يُمكن أن يفعله؟ وكيف يترك الدينَ الذي كبر ويعلم أنَّه دينه، وبعد أيام عديدة من هذا التفكير الذي لم ينقطع قطُّ، تحدث مع نفسه، ولامها على خوفها وضعفها، ثُمَّ تساءل: أليس له عقل يفكر به، فليعرف أصلَه، ويتأكد أنَّه مسلم، فإن تأكَّد، فليعرفِ الإسلامَ ثُمَّ يَختار بين الإسلام واليهودية، ثُمَّ كلم نفسه عن إيجابية هذا الفعل، فبهذا يكون قد اختار دينَه بنفسه، ولم يُجبره أحدٌ عليه، ودون أي تأثير من أحد عليه، لا أب ولا أم، بل بناءً على دراسة عقلِيَّة، وبحث شخصي منه.
فارتاح جِدًّا لهذا التفكير، وقَرَّر أنْ يبدأَ فعلاً في البحث والتعرُّف على الإسلام بشَكْلٍ مُفصل، لا للأسباب الماضية، التي كانت تَدْفَعُه للتعرُّف عليه، كالاطِّلاع أو حتى لمعاداته كما كان يفعل مؤخرًا، بل هذه المرة؛ ليرى هل هو فعلاً الدين الحق، الذي عليه أن يعتنقَه أو بالأصح أن يعودَ إليه إن افترض أنَّ أصلَه فعلاً هو الإسلام، ولهذا السبب أخذ إجازةً من الصُّحف التي يعمل بها، فلَمْ يعُد قادرًا على الكتابة في هذه الظروف، وحتى وإن قدر، فماذا يكتب وعلى أي أساس؟ هل على أنَّه يهودي أو على أنَّه مُسلم؟ فلم يعُد يعرف من هو.
صار بنيامين يتنقل من مركزٍ إسلامي لآخر، ويسأل ويشتري الكتبَ الإسلامية، وأتى بنُسخة مُترجمة للقرآن الكريم، وقرأه لأول مرة في حياته، وكان له التأثير العظيم على نفسه، فكان ينتقل من صفحة إلى أخرى، ومن سورة لسورة، وينبهر بعظمة الكلمات والمواضيع التي يَحتوي عليها القرآن الكريم، ثُمَّ الأوامر، والنواهي، وآيات الجنة والنار، والآيات الكونية، فشَعَر وكأنه يقرأ أعظمَ من أعظم كتاب علمٍ قرأه في حياته، فهو يضُمُّ كلَّ شيء، ويهتم بأمورِ الدُّنيا والدين كافَّة، وصار كلما أنهى قراءَته، أعاد القراءة من جديد، إضافة لقراءته الكتبَ الإسلامية عن كل ما يتعلق بالدين من أحكام، وشعائر، وتعاليم، وأخلاق، وقرأ سيرةَ النبي r وأعجب به جِدًّا، وندم على عدم معرفته له - عليه الصلاة والسلام - من قبل، وهكذا ظَلَّ إلى أن أنهى سنته الدراسية، وتَخَرَّج في جامعته، فعزم على أنْ لا يذهبَ إلى تل أبيب في الصيف؛ ليبقى ويتابع بَحثه عن أهله وهُوِيَّتِه.
انكب بنيامين طوالَ الصيف على قراءة الكتب التي تتحدث عن الإسلام، ولم يترك كتابًا يقدر على الوصول إليه إلاَّ وقرأه، ثُمَّ قَرَّر الانتسابَ لأحدِ المراكز المهتمة بتعليم اللغة العربية؛ ليتعلمَ اللغة؛ ليقدرَ من خلالها أن يَعرفَ الإسلام من أقلام مَن خرج من عندهم هذا الدين، ويأخذه من مَنابعه الأصلية، ولكنَّه وجد صعوبةً في تعلُّم اللغة، وأيقن أنَّه يَحتاج للحديث مع عرب بشكلٍ مُتواصل؛ ليقدرَ على تعلمها، ولكنَّه لَم يَجِد أحدًا، فجميعُهم عادوا إلى بلادِهم في العُطلة، فسالم تزوَّج بليلى، وعاد إلى فلسطين هو وزوجته، ومريم ذهبت مع أبيها إلى سوريا.
فلم يبقَ أمامه إلاَّ الطفل إسماعيل؛ ولذلك طلب منه أنْ يتكلمَ معه بالعربية؛ حتى يتدربَ عليها، ولكنَّه على كل حال لم يتعلم الكثير منها في هذا الصيف؛ لاهتمامه أكثر بالقراءة، ولتأجيله هذا الأمر حتى يأتي سالم ومريم وأبو خالد والجميع، فكانت نيتُه أن يعيدَ علاقته معهم جميعًا، خاصَّة أنه لم يعُد عَدوًّا للإسلام، بل على العكس فهو يُحاول معرفته، ولهذا بَقِيَ اهتمامُه بالغوص في أعماقِ الإسلام؛ لعله يعرفه بشكل حقيقي بعيدًا عن كل ما تعلمه من أمِّه إلين.
وأبقى جُلَّ وقته لقضيته الأولى والأساسية، وهي معرفة أصله، ومَن يكون، ولذا أراد معرفةَ أصلِ القلادة، ولمن تكون، فإِنْ وَصَل لهذا الهدفِ حُلَّت معظم مشاكله، فبدأ يسأل: هل هناك من محل يبيعُ القلائِدَ العربية في واشنطن، وهو يسأل ويبحث عن هذا الأمر، دَلَّه أحدُ مَن سألهم على مَحلٍّ مَشهور جِدًّا يبيع أجمل القلائِدَ، وله سنون يبيع في واشنطن، وبات معروفًا جِدًّا، فدله على عنوانه، فسعد بنيامين بذلك، مع أنَّه كان يعلم أنَّ ما يَصْنعه هو مُجرد مُحاولات لا تتعدى نسبة نجاحها جزءًا من ألف، ولكنَّه أراد أن يستمِرَّ في طريقه إلى النِّهاية وإن كان مُتعِبًا.
ذهب بنيامين إلى الجواهرجي الذي قيل له عنه، فوجده مشغولاً بزبون يبيع له، فلَمَّا سأله الجواهرجي عن حاجته طَلَب منه بنيامين أنْ يقضيَ حاجةَ زبونه، وقال له: إنَّه يريدُه في أمرٍ شخصي وهو غير مُستعجل، وفعلاً تابع الجواهرجي البيعَ للزبون، ولكنه بصورة مفاجئة انتبه لبنيامين، وبدأ ينظر إليه، ويُكرِّر النظراتِ، فلفت ذلك نظرَ بنيامين، وتساءل عن سِرِّ نظراته المتكررة وغير الطبيعية، فهو ينظر باهتمام وكأنَّه يشك في شيء.
خرج الزبون وأصبحَ الجواهرجي جاهزًا لقضاءِ حَاجَةِ بنيامين، ولكنه قبل أن يسأله بنيامين بادرَ الجواهرجي بالكلام، وقال: هل تستغرب من نظراتي وانتباهي لك؟ فلا تستغرب، فقد ذَكَّرتني بزبونٍ قديم لي لم أعُد أسمع عنه شيئًا، ولكن لا تَهتم بذلك، والآن قل لي: ما حاجتك؟ فمباشرة أخرج بنيامين القلادةَ وسأله إن كان يعرفها؟
ففُوجئ الجواهرجي، وصرخ: يا إلهي! إذًا أنت هو، أنت محمد بن أحمد، وأنا أقول في نفسي: كم يشبه أحمدَ الزبون القديم، الذي أحْبَبْته جِدًّا، وقصته لا تغيب عن بالي، يا إلهي! كم تعطيه ملامح، فأنا والحمد لله ذاكرتي جيدة، ولا أنسى الأشكالَ، ولكن شكل أبيك بالذَّات أذكره جيدًا؛ بسبب قِصَّة هذه القلادة، فقِصَّتُها مَحفورة في ذاكرتي، هنا أيقنَ بنيامين أنَّ أصلَه ليس يهوديًّا، ورغم تفاجُئِه إلاَّ أنَّه صار يتقبَّل الأمورَ بصَلابَةٍ أكبر، فقد اعتاد على الصدمات؛ ولذلك سأله بكُلِّ ثبات: إذًا تذكُر النقشَ الذي على القلادة؟
• (أوه) وكيف لا أذكره؟ وقصة القلادة أحكيها دائمًا في جلساتي، وكما قلت لك: هي مَحفورة في ذاكرتي، فالنقشُ أنا نقشته بيدي، وكان كما أذكر جيدًا "يا محمد، أنت مسلم"، فكما تعلم أنَّ أمَّك تَخاف عليك من العيش في أمريكا؛ ولذلك كانت تَعيش في ذُعر، وكل يوم تقترح على أبيك عملاً يَحفظك الله من خلالِه، إلى أنْ جاءَتْها فِكرةُ القلادة؛ لتَضَعَ لك هذه الرسالة؛ لتبقى متذكرًا أنَّك مسلم، ولا تأخذك الشهوات بعيدًا.
• ومن ذكر لك هذه القصة؟
• طبعًا أحمد أبوك، لَمَّا طلب مني عملَ القلادة بهذه المواصفات، استغربت يومَها كثيرًا، فكلمني عن مَخاوف أمِّك، ولكنَّ المهم ما أخبارُهما؟ فمُنذ اليومَ الذي سافرا فيه إلى سوريا لم أعُد أسمع عنهما شيئًا، ثُمَّ لِمَ نتكلم بالإنجليزية؟ ولِمَ لا نتكلم العربيةَ؟ فما دُمنا عربًا مع بعضنا، ولا يوجد أمريكيُّون بيننا، هنا علم بنيامين أنَّه من سوريا، ولكن تَجاهل أسئلتَه، فهو لا يعرف أيَّ شيء عن أبويه، ثُمَّ لا يعرف العربيةَ أيضًا، وسأله: يعني تعرف قصةَ القلادة بالتفصيل أم لا؟
• نعم، فقد حكى لي أبو محمد قصتَها لَمَّا رأى استغرابي عندما سألته عن سِرِّ ذلك، وأنا ذكرت لك ملخصًا لها منذ قليل.
• إذًا هل تحكي لي ما قال لك تمامًا؟
• أذكر يومَها أنَّه قال لي: إنَّ أمَّ محمد تَخاف على ولدها من العيش في أمريكا، وتخاف عليه من الانحراف والتأثُّر بأصدقاء السوء؛ لذلك تريد أن تعملَ له شيئًا يُرافِقُه، ويُذكِّره إن ابتعدَ بأنَّه مسلم، وها أنت اليومَ أصبحت شابًّا، وما زالت القلادةُ معك، وما زالت رسالةُ أُمِّك لك مَوجودة معك، ولكن لم تقل لي: لِمَ لا تتكلم معي بالعربية، إضافةً إلى أنَّه لفت نظري لغتك الإنجليزية المتقنة، وكأنَّك أتيتَ إلى هنا منذ زمنٍ، أم أنك تعلمتَ مِن والديك اللغة؟
هنا شعر بنيامين أنَّ هذا الشخص قريبٌ له، فهو الوحيد الذي يُمثِّل صلةَ الوصل بينه وبين أهله؛ ولذلك أراد إخبارَه بالحقيقة، ثُمَّ قال لنفسه: لأُخْفِ عنه يهوديتي، ثُمَّ قال له: أنا لا أعرف أبويَّ؛ لذلك أتيتُ إليك؛ عَلَّك تكون صِلَةَ الوصل بيني وبينهم، فأنا أعيش في أمريكا مع أبوين غير أبويَّ طيلة حياتي.
• يا إلهي! ماذا تقول؟ يعني ذلك أنت غيرُ مسلم الآن؟
• وكيف استنتجتَ أنِّي غيرُ مُسلم؟
• لأنَّ ذلك الوقت كان المسلمون قِلَّة هنا، فبالتأكيد العائلة التي تربيتَ ضِمْنَها أمريكيَّة، وهذا يعني أنَّها غيرُ مُسلمة، يا إلهي! يعني مَخاوف أمِّك كانت في مكانِها، وكان إحساسُها صادقًا لَمَّا شعرت بأنَّك ستبتعد، ولكن بالتأكيد لم تتخيل أنَّك ستكون مسيحِيًّا.
• يعني أمي كانت تَخاف عليَّ، ولذا ألبستني قلادةً تُذكِّرني من خلالها أنِّي مسلم، ولكني لم أكتشفها إلاَّ لما صرتُ رجلاً، فكيف تُريدني أن أغيِّر ديني بكل بساطة؟
• لا - يا بُنَيَّ - لا تقل ذلك، فأنت ببقائك مسيحيًّا تكون قد غَيَّرتَ دينَك حقيقةً؛ لأنَّ دينك هو الإسلام، ولا دينَ لك سواه.
• ولكني لستُ مسيحِيًّا.
• لم أعُد أفهم، إن لم تكن مسيحيًّا، فأنت مسلم إذًا، أم ماذا؟ أفهمني.
• أنا يهودي.
• يا للمصيبة، يا للمصيبة، يهودي، وكيف ذلك؟
• ربتني أسرةٌ يهودية، فأصبحتُ يهودِيًّا، واسمي بنيامين، وأيضًا إسرائيلي.
• يا لطيف، يا لطيف، يا لطيف، لا أصدق ما أسمع، أين أنتما يا أبَا مُحمد، ويا أم محمد؛ لتنظرا ما حَلَّ بوَلَدِكما؟ قد أصبحَ عدُوًّا لكما، لا، لا يا بني، عُد، وارجع إلى دينِك ووطنِك وأهلِك، وانسَ اليهودية، وتوقَّف عن انتمائك لهذا الشعب الظالم، الذي احتل أرضَك المقدسة أرضَ فلسطين، واحتل مسجدك الأقصى، وقَتَل وشَرَّد إخوانَك، قال أبو علي هذا الكلامَ بهذه الطريقة قاصِدًا؛ ليُعرِّفَ بنيامين أنَّ فلسطين هي بلده هو كمسلم لا كيَهودي، وقال له: إنَّ المسجدَ مسجدُه هو؛ ليستشعرَ أنَّه فعلاً هو مسجده كمسلم، ومن يُقتل من الفلسطينيِّين هم إخوانه، وليس اليهود.
كانت كلماتُ أبي علي تؤثِّر في بنيامين، فإلى هذا الحد هو بمُصيبة؛ لأنَّه يهودي، وإلى هذا الحد هو في مَوقع مأساوي يَجعل مَن لا يَعرفه يُجَنُّ عندما يسمع أنه يهودي، فهو لم يرَ أباه منذ سنين عديدة، وهو الآن يتأثَّر على والده لهذا الحد، فكيفَ قَبِلَ هو اليهودية كُلَّ هذه السنين؟ وكيف قَبِلَ أعمالَهم في فلسطين، التي يفترض أنَّها بلده، ثم كيف سيعود لدين لا يعرفه إلاَّ منذ شهور قليلة؟
ولكنَّ أبا علي قطع عليه تفكيرَه لما ناداه قائلاً: يا محمد، فكانت هذه أول مرة يُنادَى فيها بهذا الاسم، فكان لها وقع غريب عليه، فهو يُنادى باسم نبي الإسلام - عليه الصلاة والسلام - ثُمَّ قال أبو علي: يا محمد، انتبه إلَيَّ، فأنا أول مرة أراك، ولكني أحببتُ والِدَك؛ ولذلك اعتبرني مثل والدك، وأنا مُستَعِدٌّ لأساعدك بكل ما أوتيت، وسأسأل عن أبيك، مع أنَّه لم يُخبرني عن عنوانه، ووعدني بأنْ يتَّصِلَ بي، ولكن لم أسمع صوتَه بعدها قطُّ، ولكنه هو يسكن دمشق، فسأبذل جهدي، وأسأل عنه؛ لعلي أعرفُ ما يُفيدك وأخبرك به، فشكره بنيامين، وأعطاه عنوانه، ووعده أن يزوره دائمًا.
سعد بنيامين بلقاء أبي علي؛ لكونه تقدَّم خطوةً كبيرة في طريق معرفة حقيقته؛ بسبب هذا اللقاء، ولكنَّه تألَّم أيضًا لما عرفه، فهو أصبح متيقنًا أنَّه عربي ومسلم، وأنَّ أفخاي وإلين ليس لهما علاقة به، إلاَّ أنَّهما ربَّياه، وفي هذه الساعة لم يرغب في رؤية أحد سوى مريم؛ ليُكلمها عَمَّا في نفسه، ولكن هذا مستحيل؛ لسفرها أولاً، ثُم حتى ولو لم تكن مسافرة، فلن تسمح له أن يَحكيَ لها ما يشعر به.
شعر بنيامين أنَّ هناك وقتًا كافيًا قبل بدايةِ العام الدراسي الجديد، يسمح له بالذَّهاب إلى تل أبيب؛ ليُكملَ بَحثه عن أصله، ويسأل أبويه عن كيفية وصوله إليهما؛ ولذلك عَزَمَ على السَّفر، وذهب إلى تل أبيب التي منذ وصوله إليها عاد لِيَشعرَ بالكرب، وأحَسَّ أن هذا المجتمع ليس بمجتمعه، فأدرك ولأول مرة التفسيرَ الحقيقي لمشاعره، التي كانت طوالَ تلك السنين تُحيره، وتثير تساؤلاتٍ لديه حول سبب عدم ارتياحه لهذا المجتمع، وشعوره بالغربة، فكان في هذه المرة قادرًا على الإجابة عن تساؤلاتِه، وهو يدخل تل أبيب، فهو اليومَ يعلم أنَّه ليس ببنيامين، وليس بيهودي، وكان ينظر إلى الشوارع والناس، وإلى الحجر والشجر، فتزداد غربته، ويزداد إحساسه ببُعده عن هؤلاء الناس، وهذا المجتمع، وبعدهم عنه.
ومنذ وصوله إلى البيت وقبل أن تأتِيَ فُرصة ليسألَ أهله عن حقيقة أصله، بشره أفخاي أنه استطاع إيجادَ عمل له كمراسل لإحدى القنوات اليهودية في واشنطن، وسيُحقق بذلك أولَ خطوة له في السير على طريق المراسلة، ولكن بنيامين لم يسعده الخبر، الذي لو سَمِعَه منذ شهور، لطار فرحًا بسببه، ولكنه الآن بات عاجزًا عن اتِّخاذ القرار في هذه المسألة، فهو لم يَعُد يهوديًّا، مع أنه لم يصبح مسلمًا أيضًا، ولكن على كل حال هو في فترة تَحوُّل، ومرحلة مصيرية بالنسبة إليه، ومن خلالِها سيتَّخِذ قرارَه النهائي، فإمَّا أن يظل يهوديًّا، وإما أن يعود لأصله، ولهذا كان القرارُ صعبًا بالنسبة له، خاصَّةً أنه وحيد لا يقدر على استشارة أحد، فكل قراراته سيُقررها هو وحْدَه.
طلب بنيامين من أبيه أن يُمهله حتى يعود من القدس؛ لأنَّه يريد أن يذهبَ لزيارة حائط "المبكي"، فأمهله أبوه إلى أن يعود... وفعلاً ذهب بنيامين إلى القدس الشرقية، ودخل المسجد الأقصى من ناحية اليهود، ولكنَّه أحسَّ برغبة أن يدخلَ من الأبواب التي يدخل منها المسلمون، فكان هذا الشعورُ يوصل له رسائلَ أنَّه فعلاً مُسلِمٌ، ويزيد من يقينه أنَّه لم يكن يهوديًّا يومًا قطُّ، حتى لما كان مقتنعًا أنه يهودي مائة بالمائة؛ لأنه كان كثيرًا ما يشعر بالغربة في تلك الأيام، ولأول مرة شعر تُجاه المسجد الأقصى بمشاعر جديدة، رغم راحته في المرتين السابقتين، ولكن زيارته اليومَ كانت فيها المشاعر مُختلفة، فهو يشعُر بأنه ليس اليهودي الذي يدخل لحائط "المبكي".
بل أحسَّ في نفسه أنه إنسانٌ آخر، ولكنه لم يُرِد أن يعترفَ بأن هذا الإنسان الآخر هو المسلم، الذي يدخل المسجد الأقصى، ثُمَّ نظر إلى كل أطرافه التي يستطيع نظرُه الوصولَ إليها، وبَقِيَ هناك لساعات ثُمَّ - ومن غير أن يشعر - خرج منه، وعاد ليدخله من الباب الذي يدخل منه المسلمون، مع حذره؛ حتى لا يكشف أنه يهودي، ولكنه تشَجَّع، وقال لنفسه: لو وضعت أمام أي تساؤل أعرف نفسي على أنِّي أمريكي، ولكنه على كل الأحوال دخل ولم يعترضه أحد، وشعر وكأنه يَملك الدُّنيا وهو يتجول بأنحاء المسجد، وهو يتيقن في قرارةِ نفسه أنه مسجدُه، ثم أنهى زيارته، وخرج منه قاصدًا بيتَ صديقه سالم.
ذهب إلى بيت أهل سالم، فدلُّوه على بيته الجديد، الذي تزوَّج فيه، فذهب إليه، فكانت مفاجأة لسالم، فهو في أمريكا لم يعد يراه، فكيف يراه في القدس، ولكنَّه اضطر لاستقباله بعد أن وصل إلى بيته، ولكن بنيامين أخبره في أولى لحظات جلوسه عن تركِه لمعاداة الإسلام؛ لتكونَ جلستهما كجلساتِهما السابقة؛ لأنَّه اشتاق لسالم، واشتاق للحديث معه، فسر سالم لما سمع الخبر، خاصَّة أنه لم يعرف بهذا بسبب مَجيئه لبلده.
جلس الشابان مع بعضهما لساعات، وشعر سالم من خلالها أنَّ هناك تغيُّرًا طرأ على حياة بنيامين، ولكنه لم يستطع معرفته؛ ولذلك سأله: هل هناك من أمر حدث معه جعله يغير أفكارَه؟ وما الذي دفعه لتغيير مواقِفِه تُجاه الإسلام، فلم يدرِ بنيامين بأي شيء سيرد عليه؛ ولذلك ظل صامتًا، فسأله سالم عن سبب هذا الصَّمت، وهل هناك ما يُخفيه وراءَ هذا الصمت؟ فما كان من بنيامين إلاَّ أن بدأ بالكلام دون أن يشعر، وكأنه كان في ظمأ شديد، وحاجة للكلام، فهو لم يعد قادرًا على السكوت، ويحتاج لمن يسمَعُه وينصحه فيما سيعمله مستقبلاً، وخاصة أن مَن يَجلس أمامه هو سالم الصديق الحبيب له، وكان بالنسبة له كالأخ الذي طالما حَلَمَ به؛ ولهذا قال وبشكل مباشر دون مقدمات: سالم، أنا أصلي مسلم، فلم يستوعِبْ سالم الكلامَ، وفوجئ به، ثُمَّ قال: وكيف ذلك؟ وهل تعي ما تقول؟
• نعم، علمت بالصدفة أنَّ أبَوَيَّ مسلمان.
• أبواك! ألست تعيشُ هنا مع أبويك؟
• هما ليسا أبويَّ، ولكن هما مَن رَبَّياني، ووالدايَ سوريان.
• سوريان أيضًا! يا إلهي! ماذا تقول؟ وماذا أسمع؟ فعلاً أنا انتبهت لمواصَفاتِك، وأنَّكَ أبعدُ ما تكون عن الأمريكيِّين، فتذكَّر أنِّي قلت لك: إنَّك تشبه العرب، ولكن لم أكن لأتخيَّل أنَّك يُمكن أن تكون عربيًّا أو مسلمًا بعد أن عرفتك، ولكن كيف عرفت؟ أظنُّ أن أبويك هما مَن اعترفا لك، فلا أتخيل طريقةً أخرى.
• لا ليس أبويَّ، فهما ما زالا يعتقدان أنِّي معتقد أنَّهما والدايَ، ولكن قلادتي هي السبب.
• القلادة! وكيف ذلك؟ فحكى بنيامين قِصَّتَه كلها لسالم، الذي كان يسمعه باهتمام، وتأثُّرٍ واستغراب، ولكن فرحته كانت أكبر المشاعر؛ لأنَّه علم أن بنيامين ذلك الشاب الذي ساعده، وكان يوقن أنَّه مُختلف عن اليهود هو ليس يهوديًّا، بل مسلمًا، ثم حكى بنيامين عن عمله الجديد، وأنَّه مُحتار، ولا يقدر أن يتَّخِذ قرارًا مناسِبًا، فهو إلى الآن لا يعرف كيف سيكمل طريقه؟ وهل سيبقى على اليهودية أو سيعود للإسلام؟
فأدرك سالم أنَّ بنيامين يريد أن يتَّخذ قرارَه بنفسه؛ ولذلك لم يشأ أن يظهر وكأنه الآمر أو المرشد والمسيِّر له، ولكنه لم يستطعْ أن يتركَه دون تقديم النصيحة له؛ لأنه مُقدِمٌ على أهمِّ اختيار في حياته، فإن اختار بشكلٍ خاطئ يقضي على نفسه؛ ولهذا كلَّمه قائلاً: بنيامين، أنا لا أريد إشراك نفسي في قراراتِك، ولكنَّك صاحبي، وقدمت لي الكثيرَ من المعروف، وصرتَ شخصًا مهمًّا بالنسبة لي، ولأنَّك من أصلٍ مُسلم أوَدُّ أن أقدم لك نصيحةً كمسلم يرى مسلمًا قد ضيَّعه يهودِيَّان.
وأقول لك: ها أنت ضحِيَّةٌ أخرى من ضحايا اليهود، فكيف قَبِلَ هذان اليهوديان أنْ يَسلبَا مُسلمًا دِينَه؛ بحيث يأتيان به ويُربِّيَانِه ويُغيِّران دينَه ويعلمانه اليهودية؟! قل لي: ماذا تسمي ذلك؟ ألاَ ترى أنَّ هذا يُمثل قِمَّة الإجرام؟ فمن تعتقد أنَّهما أبواك ليسا إلاَّ مجرمين في حقِّك، فمن يسلب الدين هو أكبر مجرم، وجُرمه لا يغتفر.
فافرض أنك متَّ على اليهودية، ولم تعرفِ الإسلامَ، فبذلك تموت غيرَ مُوحِّد، وتخسر آخرتَك كما خسرت دُنياك؛ ولهذا - يا بنيامين - أتمنى أن تكونَ واعِيًا، وتأخذ قرارًا صائبًا يُعيدك إلى توحيد الله وعبادته، ويبعدك عن ظلم اليهود وإفسادهم في الأرض، فانظر... هؤلاء أقرب الناس إليك، وهما مَن رَبَّياك، كيف فعلاَ معك، وسَلَبا منك دينَك، الذي هو أغلى ما يَملك المسلم، ولَهلاكُ نفسه وولده وماله أهونُ عليه من ذَهاب دينه.
فسكت بنيامين قليلاً، ثُمَّ قال: أنا أعي ما تقول؛ لأنِّي قرأتُ كثيرًا عن الإسلام وعن أحكامه، وقرأتُ عن عقاب الله لمن يَموت على غير الإسلام، ويشرك به، ولكنَّ اتِّخَاذَ القرارَ من أصعب الأمور على نفسي، فتعلم أنِّي بقيت يهوديًّا لأَكْثَرَ من عشرين سنة، فهل تريدني أنْ أسلمَ في أيَّام؟ فأيقن سالم أنَّ بنيامين يقتنع بالإسلام، ويرفِض اليهودية، ولكنَّه يَخاف من أن يعترف بذلك.
ثُمَّ ولأن الجلسة طالت لزم الأمر أن يعمل سالِمٌ الشايَ عِدَّةَ مرات، خاصة أن زوجته لم تكن في البيت، فقام ليعمل الشاي، وبدأ يفكر أثناءَ عمله في كلِّ ما دار من حديث بينه وبين بنيامين، وعَذَر بنيامينَ في عجزه عن اتِّخاذ قراره؛ لصُعوبة الأمر، فمهما يكن، فقد أمضى بنيامين حياته وهو يهودي، وفَكَّر أيضًا في عمله لصالح قناة يهودية، فسأل نفسَه: ماذا لو أسلم، وأخفى إسلامَه؛ ليستفاد من ذلك في فَضْحِ اليهود وأفعالهم؟
ولكنَّه أراد أن يفكرَ في طريقة ذلك، والخطة التي يُمكن أن يعملاها لتحقيقِ ذلك، ولكنَّه عجز عن ذلك، فهو مهما كان يظل فردًا، وليس حزبًا منظمًا؛ ليضع خطةً مُحكمة؛ ولذلك قَرَّر أن يفتحَ الموضوع مع بنيامين؛ لِيَرى كيف يُمكنهما فعل ذلك بشكل فردي، فإن لم يكن تابعًا لمنظمة هذا لا يعني أن يسقطَ الجهادُ عنه بما يستطيع، فالمهم أن يؤذي اليهودَ، ويُقاومهم بما يقدر كما فعل أخوه سليم.
جاء سالم بالشاي، وجلس وهو عازم على إخبار بنيامين بما فَكَّر وقرر، ولكنَّه لا يدري كيف يفتح الموضوع، خاصَّة أنَّ بنيامين لم يسلم بعد، ولكن ما شجعه يقينه الكبير بأنَّ بنيامين قد اختارَ الإسلامَ، وآمن به، ولكنَّه لَم يجرؤ إلى الآن على التصريح، وهذا اليقين وَصَل لسالم من خلال حديث بنيامين وإحساسه بصدق كلماته، وثنائه غير المباشر على الإسلام وما يتضمنه من تعاليم وأحكام وأخلاق، وغير ذلك؛ ولذلك اختار أن يكلمه بشكلٍ مُباشر دون تلميح.
فقال: بنيامين، قد علمتَ الحقَّ، وعلمتَ أنَّك مسلم، فإن أسلمت، فلن تنتقلَ من دين ولدت عليه لدين آخر، بل ستعود من دينٍ انتسبتَ له ظلمًا وزُورًا إلى دينِك الحقيقي، الذي عليه آباؤك وأقرباؤك، وكما قلت لك، فهو سلب منك حقدًا وكرهًا من هذين اليهودِيَّيْن اللذين لم ينجبا، فأرادا أن يؤذيَا مسلمًا بتغيير دينه، وكأنَّهما ينتقمان من جميع المسلمين عندما يسرقان منهم طفلاً، ويُحوِّلانِه إلى اليهودية، بل وليكونَ عدُوًّا لدينه الحقيقي، ولذلك بدلاً من أن تحتارَ في قرارِك، فعليك أن تكون صارمًا وقويًّا في اتِّخاذه، بل تنتقم من هؤلاء اليهود الذين لا يردعهم دين، ولا قيم، لدرجة أنَّهم يسرقون طفلاً ويَحرمانِه من أعلى ما يملك وهو الدين، إضافةً إلى كلِّ ما يفعله اليهود، فقاطعه بنيامين قائلاً باستغراب: وهل تريد أن أنتقمَ من والدَيَّ اللذين رَبَّياني؟
• لا، لا أريدك أن تنتقمَ ممن في الحقيقة ليسا والديك، بل أريدُك أن تنتقمَ من تلك الأخلاق والأعمال الظالمة المفسدة، التي يؤمن بها كلُّ يهودي إسرائيلي، أريدُك أن تنتقمَ لنفسك التي سُلِبَ منها دينها من اليهود جميعهم؛ لأنَّهم يسمحون لأنفسِهم بهذه الأعمال الإجرامية أن يفسدوا في الأرض.
فأبواك ليسا إلاَّ رمزًا لهؤلاء القوم الذين يستبيحون الحرمات، ويُفسدون في الأرض، ويَحتلُّون وطنَ إخوانك، وهي أرضنا المقدسة، ويُقتِّلون ويشرِّدون، فأنا لا أريدُك أن تنتقمَ من أجل الانتقام، فنحن لا نُبيحُه هكذا دون سبب، بل أطلب منك أنْ تنتقمَ مِمَّن يستحقون أن ننتقمَ منهم؛ لأنَّهم هم الظالمون وهو من بدأ بجرائمه، ولكنَّ بنيامين لم يردَّ بكلمة، وصَمَت طويلاً، وبعد هذا الصمت الطويل سأله سالم: ما بك؟ لِمَ لا ترد؟ ولِمَ لا تقل رأيَك؟ فأنا أنتظرك؛ لنرى بعدها الطريقةَ التي يُمكن أن ننفذَ بها ذلك.
• دعني لأفكر في هذا المعنى الذي لم يَخطِر ببالي قطُّ، فكل الشهور الماضية التي كنت أبْحَث فيها عن أصلي، حتى بعد أن تأكَّدت لم يَخطِر ببالي أنَّ اليهوديين اللذين رَبَّياني بفعلِهما هذا يكونان قد سلبا مني ديني.
• نعم، يا صاحبي هو هذا المعنى بالضَّبط، فلن تَجِدَ تفسيرًا لذلك إلاَّ هذا، وعلى كلٍّ، فكما تشاء، فَكِّر ثُم رُدَّ عَلَيَّ.
عاد بنيامين للفندق الذي ينام فيه خلالَ إقامته في القُدس، وبدأ يُفكِّر فيما عرضه سالِمٌ عليه، ولكن معنى سلب الدين كان هو المسيطر عليه، وبعد تفكير عميقٍ في هذا الأمر تساءل: أيعقل أنَّ هناك أناسًا يسمحون لأنفسهم أن يعملوا هذا العمل؟ فهو عمل لا إنساني أن يسلب المرءُ دينَ طفل ضعيف، لا يستطيع أن يدافعَ عن دينه، ولا أن يَختارَ بينه وبين دينِ مَن يَسلب منه هذا الدين.
ثُمَّ قال: لا، لا يُمكن أن يكونَ عملاً إنسانِيًّا، بل هو إجرام بكلِّ معنى الكلمة، فكيف يفرضون عليَّ دينًا غَيْرَ ديني، وغير دين آبائي، ثُمَّ يكملون الجريمة بأنْ يُنشِّئاني على بُغض ديني، وعلى مُعاداتِه، ثم عندما أعلنُ عدائي لديني يَسعَدانِ ويتَّصلانِ بي ويُهنِّئانِني على هذا الفعل، وأصبحت بطلاً أمامَهم، ويَدَّعِيان أنَّ فرحتهما لأنِّي أعادي الدينَ الذي يعمل ويَدْعَم الإجرام، فماذا يسمون صنيعَهم إذًا؟ وأيُّ دينٍ هذا الذي يسمَح لهم بفعلِ هذه الأفعال غير المقبولة؟
ثُمَّ سكت بعضَ الوقت، وصرخ بعدها: يا إلهي! ما هذا الشعبُ الذي أعيش بينه؟ يا إلهي! كيف أتيتَ بي، وأَذِنْتَ بأنْ تكونَ نشأتي بين هؤلاء المجرمين؟ فوالداي ما هما إلاَّ مثال لجميع مَن يعيش على هذه الأرض، يَحتلها ويسلب خيراتِها، ويُشرد شَعْبَها ويسرق أراضيهم؛ لينعمَ هو بها، يا إلهي! ما أبشعَ هؤلاء! وكيف يُعَلَّمون ويُرَبَّوْنَ ويُنَشَّؤون؛ ليصبحوا بهذه الصفات البغيضة؟









عرض البوم صور ابو فتحي   رد مع اقتباس
قديم 06-12-2013, 05:30 PM   المشاركة رقم: 29
المعلومات
الكاتب:
ابو فتحي
اللقب:
مدير عام سابق
الرتبة


البيانات
التسجيل: Jun 2010
العضوية: 2821
المشاركات: 531 [+]
بمعدل : 0.11 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو فتحي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:
إرسال رسالة عبر Skype إلى ابو فتحي

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

ثُمَّ تَبَسَّم مُستهزئًا، وقال: كيف يُنشَّؤون؟! كما نشأتَ أنت، وعلمتك أمُّك إلين على كُرْهِ العرب والمسلمين، وكره كل الناس، وعلى استباحة كلِّ شيء؛ لتحصلَ على مصالِحِك ومُتعتِك على حساب مصالح العالم كله، ولكنِ الفرقُ بينكَ وبينهم، وما حفظك من أن تكونَ مثلهم تمامًا - هو أصلُك المسلم؛ ولذلك لم تقبل أعمالَهم وأفعالَهم في أغلب الأحيان، مع أنَّك صنعت صنيعَهم أحيانًا، فما تسمِّي كتاباتِك المشؤومة ضِدَّ الإسلام، وإضافة إلى أصلك الذي دفعك لبُغض أعمالهم، فإنَّك لم تزُرِ المعابدَ اليهودية منذ قدرت على اتِّخاذ القرار؛ لذلك لم تسمعِ الكثيرَ من تعاليمهم التي تدعو للقَتْلِ والإجرام، ثم نام وهو غارق في هذه الأفكار.
ذهب بنيامين في اليوم التالي إلى بيتِ سالم؛ ليُعطِيَه قرارَه ورأيَه فيما طلبَه منه في الأمس، وكانت مفاجأة سالم حينَ أخبره بنيامينُ برَفْضِه لعرضه، وأنَّه لن يُعرِّض نفسه لسخطِ اليهود، خاصَّةً أن عهدَه بالإسلام قريبٌ، ثُمَّ هو لم يُسلم إلى الآن، ثم قال له: وكيف أنتقمُ مِمَّن رَبَّيَانِي، ورُبَّما هما لم يسرقاني، بل وَجداني تائِهًا أو غير ذلك، وأحسنا إلَيَّ، فهل أكونُ منكرًا لجميلهما؟ فرَدَّ عليه سالِمٌ لَمَّا سمع كلامَه وهو يشعُر بانزعاجٍ كبير: كما تريد، ولكنَّك قلت لي: إنَّ أمَّك لم تكن تحب القلادةَ، وكأنَّها تخاف منها، فلو أنَّها لم تكن عملت ما تَخاف منه، فلِمَ تخاف إذًا؟ ولِمَ تكرهها إلى هذا الحد؟ ولكن على كلٍّ، فأنت بعُمر يسمح لك بمعرفة الخير من الشرِّ، ودينُك الأصلي هو الإسلام، ولكن إن أحببتَ غيره، فلا إكراهَ في الدين، ولكنْ لتعلمْ أنَّك محاسبٌ على كلِّ الأحوال، ومهما كان خيارك.
لم يردَّ بنيامين بكلمة، ثم استأذنَ، ووَدَّع سالِمًا؛ لأنه سيسافر.
عاد بنيامين إلى تل أبيب، ومباشرةً أخبر أبويه بموافقته على العمل كمُراسلٍ، ومُباشرة تسَلَّم العملَ وهو في تل أبيب، وطلب من القناة أنْ يعملَ برنامجًا وثائقيًّا، فاستغربت إدارةُ القناة طَلَبَه في بدايةِ عمله، فهو لا يَملك أيَّ خبرة حتى يعمل هذا البرنامج، ولكنَّها لإلحاحه، ولأنَّها تعرف تَجربته في الصُّحف الأمريكية، وخاصَّة عداوته للإسلام، وافقت على طلبه ولم تُخفِ أنَّ من الأسباب التي دفعتها للمُوافقة ماضِيَه المعروف بعَداوة الإسلام، فكان ذلك مُؤلِمًا لبنيامين، فهو يُعطَى الامتيازات الكبيرة؛ بسبب عداوته لدينه الحقيقي.
كان هدفُ بنيامين أن يثبتَ نفسَه كصحفي، ويُظهر قدراتِه أولاً قبل أن يكشفَ أوراقَه ورأيه في كُلِّ ما يَحدث؛ ولذلك اختار لبرنامجه الأول موضوعَ "الهجرة اليهودية إلى فلسطين"، التي تُسمَّى زورًا وبُهتانًا بإسرائيل، ولأنَّه يريد التميُّز، اجتهد ليكونَ برنامَجُه ومادته متميزة، ولهذا السبب بدأ يَطوف بين اليهود في تل أبيب، ويسألُ العائلاتِ اليهوديةَ عن سببِ هجرتِهم ونَتائجِها، وهل هُم راضون عن معيشتهم؟ وهل يوجد بين اليهود مَن يرغب في العودة إلى بَلدِهم الأصلي؟ ثم انتقل إلى مدن أخرى، والكاميرا معه، سواء كان معه المصور أم لم يكن معه؛ لأنَّه كان يريد أنْ يَحتفظ بالكاميرا أكبرَ وقت ممكن، ثُمَّ انتقل إلى مُستوطنات ومدن مُختلطة تضم اليهودَ والعرب، ومن خلال تَجوُّلاتِه بدأ يَلتَقِط الصورَ بكاميرا القناة، وإن لم تكن معه يستخدم كاميرا فيديو خاصَّة به، فرأى خلالَ هذه الجولة عِدَّةَ حوادثَ استطاع تصويرَها مستخدمًا لتصويرها أشرطةً خاصَّة به؛ ليحتفظَ بها لنفسه؛ لأَمْرٍ كان يَجول في خاطره.
كان من الصور التي التقطها صورةٌ لمستوطن يهودي يَعتدي على امرأة عربية، وهي تقاومُه، ثُم سحب عن رأسِها حجابَها، وطرحَها أرضًا، ولَمَّا سأل عن قصةِ هذا المستوطن والمرأة، حُكِيَ له أن هذا اليهودي يُحاوِل أن يستولِيَ على بيت تلك المرأة، ويُخرجها هي وأهلَها منه، وقد أصدرت المحكمة اليهودية قرارًا لصالح هذا اليهودي، فلذلك لم تتحمَّلِ المرأة، فصارت تشتمه وتسبه، وتتوعده بأنَّها لن تسمحَ له بدخول بيتها، فقام وضربها، ولم يكن جزاء هذا اليهودي من الشرطة، إلاَّ أن أبعدته عن هذه المرأة، ولم تسجنه، ولم تعمل له شيئًا.
في هذه المدينة نفسها رأى بنيامين أشجارًا تَحترق، فسأل، فقيل له: إنَّ مَن أحرقها هم المستوطنون اليهود، فصَوَّر هذه الأشجار وهي تحترق، ثُمَّ ما لَبِثَ أنْ سمع أصواتًا وضجة، فذهب باتِّجاه الصَّوت، فإذا بالمستوطنين يَحملون العِصِيَّ ويضربون الفلسطينيِّين، والفلسطينيُّون يرمونهم بالحجارة ويقاومونهم بأجسادهم، ثُمَّ بدأ الفلسطينيون يأتون ويتزايد عددُهم لنجدة هذه العائلة التي حُرقت أشجارُها، وبدؤوا يضربون المستوطنين، والمستوطنون تَحميهم الشرطة وكأنَّها لا ترى أفعالَهم، ثُمَّ بدأت الشرطةُ تضرب العَرَبَ؛ مساندةً للإسرائيليِّين، بدلاً من أن تُوقفهم عن اعتداءاتِهم.
واستمرَّ بنيامين في التنقُّل في مهمته، ويلتقي هو واليهود، ويسألهم عن هجرتهم، واستمر في مراقبة كل ما هو غريب؛ ليصوره، فلفت نظرَه صورٌ لأطفال صغار يرمون الجنودَ اليهود بالحجارة، واليهود يَفِرُّون منهم وكأنَّ مع هؤلاء الأطفال أسلحةً كبيرة، مع أنَّ الجنود يَحملون بنادقهم، ولكنَّهم يَخافونهم، فأعجب بنيامين بصلابة وقوة هؤلاء الأطفال، إلا أنَّه حدث شيء أفقد بنيامين عقلَه، لَمَّا سيطر أحدُ الجنود على واحد من الأطفال، وكأنَّه يُريد تخويفَ جميع الأطفال من خلاله، فانهال عليه ضربًا، وكأنَّه يضرب رجلاً كبيرًا، فوجه بنيامين كاميراهُ إلى هذا المشهد بعد أنَّ صوَّر الأطفال وهم يرمون الجنودَ بالحجارة، وكيف يهربون منهم.
ولكنَّه بعد دقائقَ لَم يَحتمل أن يرى ما يحدث، خاصَّة أن هذا الجنديَّ لم يشتفِ منه، بل بدأ يضربه بمُؤخِّرة بندقيته، فخبأ كاميراه، وهرع إلى الجندي؛ ليخلص الطفلَ من بين يديه؛ مِمَّا أغضب الجنودَ الآخرين، وبدؤوا يضربون بنيامين، ولم يتركوه إلاَّ لما عرَّفهم بنفسه كمراسل للقناة التي يعمل بها.
وهكذا جَمَع بنيامين عشراتِ الحوادث في رحلته لعمل البرنامج، ولكن أكثر ما أثَّر فيه هو ذاك الشاب الذي أراد الجنودُ أن يعتقلوه فقاومهم، ولكنَّه ما لبث أنْ سَيْطَر عليه الجنود؛ لكثرتِهم، فلم يرضَ أن يستسلم لهم، حتى وإن سيطروا عليه، ولكنَّه لم يَجد ما يقاومهم به، فبَصَق على وجه أحَدِهم؛ مما أثار الجندي، فأطلق الرصاص عليه وهو أسير عندهم، فاستشهد وهو بين أيديهم، فكان ذلك مدهشًا لبنيامين، فكيف يقتلون مَن أصبحَ أسيرًا ضعيفًا بين أيديهم، ولكنَّه لم يكن بيده شيءٌ يعمله، فحمل الكاميرا، وانصرف بعد تصويره لهذا المشهد، ولكن ما زاد من استغرابه صياغةُ الخبر على لسان المتحدثين اليهود، لَمَّا زعموا أنَّ هذا الشاب حاول قَتْلَ أحد الجنود؛ مما اضطرهم لقتله، فتيقَّنَ من كذبهم وخداعهم.
أكمل بنيامين برنامجه وعمله بشكلٍ يُظهِر أنَّ يهوديًّا هو من عَمِله، فهو هدفه أن يُظهر شخصِيَّتَه، ولكنَّه - بدعوى الحرية - استطاعَ بذَكاءٍ أيضًا إيصالَ رسالة بأنَّ الذين يأتون مهاجِرين إلى ما يعتقدونه وطنًا لهم، لا يأتون إلاَّ لأسبابٍ مَحدودة، فإمَّا أن يكونَ لرغبتهم في المال، أو الرفاهية، أو للهروب من نقمة المجتمع الذي يعيشون فيه عليهم، وعدم قبوله لهم؛ لأعمالهم غير المقبولة، ولأخلاقهم السيئة، ثُمَّ قال رسالته في نهاية الحلقة: "إنَّني - وللأسف - لم أجد مَن يقول: إنِّي أتيتُ لأرضِ الميعاد، وهاجرت إلى "إسرائيل"؛ لأنَّها وطني، فماذا يعني ذلك؟".
عرضتِ القناةُ البرنامجَ على أنَّه هذا هو الواقع، وهذه حريةُ الإسرائيليِّين، ولكنَّ المفاجأة ظهرت في اليوم التالي حين انتقدت الصُّحف ذلك البرنامج، وما جاء فيه، وأنَّه لا يُمثل حقيقةَ اليهود، بل هو إساءة للوطن اليهودي، ولانتمائهم له، ويصوِّرهم على أنَّهم لم يأتوا إلاَّ لمصلحتهم، لا لأنَّهم أحبُّوا وطنَهم، وأرادوا العودة إليه، وكلما ازدادت الانتقاداتُ، ازدادت فَرْحَةُ بنيامين؛ لإيصال رسالته أولاً، ثُمَّ لأنه أثبتَ نفسه كصحفي تلفزيوني، وتَميَّز في عمله، وكانت لهذه الانتقادات أثرُها في إرضاء القناة، وتَمسُّكها به بعد أن أثبت تَميُّزه.
اقترب موعد سفر بنيامين إلى أمريكا، فطلبت إلين منه أنْ يذهبَ معها ومع أبيه لاحتفالٍ في مَعبد يهودي، ولكنَّه رفض ذلك؛ بحجة أنَّه مشغول، ولكنَّها أصرَّت عليه، فابن أختها مِن بين المكرمين في هذا الاحتفال، الذي هو احتفال بتخريج دفعة من الأطفال في المرحلة الأولى من التعليم الديني اليهودي، فانتبه بنيامين للتعليم الديني، وخطر بباله أنْ يذهبَ؛ ليرى ما يتعلمه اليهود في دينهم، فهو لم يكن يهمُّه هذا الأمر؛ ولذلك لم ينتبه له يومًا، وحتى وإن سَمِع، فلم يكن يعير اهتمامًا كبيرًا لذلك.
وصل بنيامينُ مع أهله إلى المعبد، فانقبضَ صدرُه بمجرد دخوله إليه، فبدأ يلومُ نفسَه على ما فعل، ولِمَ يدخل هذا المكان الذي يشعُر بغربة كبيرة فيه، فكان يتخيَّل كأنَّ جميعَ مَن في المعبد ينظر إليه، ويرغبون في إخراجه من معبدِهم، فكيف يجلس بين أناسٍ لو عرفوا حقيقَتَه، لقتلوه وقطَّعوه إِرْبًا إِرْبًا، ولكنَّه تَماسك ومسك كاميرا الفيديو، التي يَملكها، وبدأ يصوِّر الاحتفالَ كلَّه، وطبعًا بدا هذا التصوير طبيعِيًّا، فكلُّ الأهل يصوِّرون أبناءَهم، فبدأ الحاخامات والطلاب يتكلمون عن ملخص ما تَمَّ من تعلُّم وتعليم، وما أهم ما يدعو له الدين اليهودي، فكانت دهشةُ بنيامين كبيرةً؛ لكثرة ما ذُكر العرب والمسلمون، ودعوة الحاخامات إلى تلاميذهم إلى قتل العرب، وحِلِّ ذلك، وأنَّ ذلك من التديُّن، وأنَّ وطنهم من النهر إلى النهر، وعلى اليهود تحقيق ذلك، حتى وإن أباد اليهودُ العربَ، فشعر بنيامين بالرُّعب، وهو يَجلس بينهم وكأنَّهم سيهجمون عليه ويقتلونه، ولم ينتهِ هذا الاحتفال إلاَّ ودم بنيامين قد جَفَّ.
سافر بنيامين إلى أمريكا، وأخذ الأشرطةَ جميعها معه، وكان قد كتب عليها أسماءً لأفلامٍ مشهورة، ووَضَع من كل فيلم أولَ خمسِ أو عشر دقائق في أول كلِّ شريط، حتى إنْ فُتِّشَ في المطار يظهر أنَّها أفلامُ سينما؛ لأنَّها لو كشفت لن يستطيعَ إرجاعها أبدًا.
عاد بنيامين لإكمال دراساتِه العليا، وبدأ بدراسةِ الماجستير، فكان موضوع الرسالة هو "اليهود وأحقيتهم في أرض فلسطين"، ولأنَّه يعرف أنَّ هذه الدراسة لم تكتمل إن درس على أيدي اليهود، وأيدي الأمريكيِّين المُتَصَهْيِنِينَ، فلذلك اختار أساتذةً يعلم قوتَهم وصدقهم وانتصارَهم للحق.
ثُمَّ بدأ العمل من جديد في الصحيفتين، وأخذ طابعًا جديدًا في الكتابة، وصار يتكلم عن اليهود وأخطائهم في فلسطين، ولكنَّه يتكلم بذَكاء، وبطريقة تقبلها الصحيفتان؛ لأنَّه إن تجاوز الحَدَّ المسموحَ لن تنشرَ له، بل ربَّما تطرداه من العمل كليًّا، ولكنَّ استمرارَ هذه الحال لَم يُعجبه، فبدأ بالبَحْثِ عن صَحيفة تنحاز للحق؛ ليقدرَ على الكلام بحرية أكثر.
علم سالِمٌ بكتاباتِ بنيامين الجديدة وبرامجه على القناة الإسرائيلية، فعرف أنَّه سَمِعَ لكلامه، ولكنَّه لم يستطعْ تفسيرَ رفضِه لهذا العمل عندما طلب منه ذلك، رغم أنَّه يقومُ بمثله اليومَ، ولو كان بطريق غير مباشر، ولكنَّه أعجبه على أي حال.
وكعادة سالم، فإنَّه يأتي ويأخذ زوجته ليلى من الجامعة، فأتاها في يوم، فإذا بها تقف مع مريم، فسَلَّم عليها، وسألها عن أخبارها وأخبار دراستها، خاصَّةً أنَّه لم يَرَها إلاَّ هذا اليوم منذ أنْ سافرت إلى سوريا؛ لعدم تصادف ذلك، وبعدها فتح موضوعَ بنيامين، وأخبرها بتغيُّره وتغير كتاباتِه، ولكنَّه طبعًا لم يُخبرها بأصلِه المسلم، فرَدَّت مريمُ متصنعةً عدمَ اهتمامها: "حتى وإن تغيَّر يظل يهوديًّا، فاليوم تجده معك، وغدًا ينقلب ضِدَّك".
ليلى: لا، يا مريم، نَحن في فلسطين لا نأخذ الأمرَ هكذا، فهذا يهمُّنا، فأي صوت يكن معنا، فهو في مصلحَتِنا، وخاصَّة أن هذا يهودي، فصوتُه بذلك أهم؛ لأنَّه يشهد على شعبه.
سالم: نعم، أختي مريم، فكلام ليلى صحيح، فنحن نَهتم بأن يكونَ هؤلاء معنا، ويكشفوا جرائِمَهم لشعبهم.
مريم: أنا لا أومِن بهذا أبدًا، فاليهودي يهودي، ولن يكونَ معنا أبدًا، ولا يمكن أن يتركَ نُصرةَ شعبه وينصرنا.
سالم: لا، لا، يا أختي، فالأمرُ لا يؤخذ هكذا، فاليوم نَحن في عصر الكلمة والرأي الحر، فإنَّ وجود يهود معارضين، فهذا يُفيدنا، فهم أعلمُ بعَوْرَاتِهم، فإن فضحوها، فهذا يكون لصالحنا.
مريم: ربَّما كلامك صحيح، ولكنَّ هذا رأيي، وربنا يُهيِّئ لنا ما يقربنا من النصر.
فأمَّن الجميعُ، ثم استأذن سالم وزوجته وذهبا، وبَقِيَت مريمُ في الجامعة؛ حيث بَقِيَ لها محاضرة ستحضرها، وهي على حالِها تنتظر، فإذا ببنيامين يأتي نحوَها، فخافت وقالت لنفسها: وهل عاد ليلاحقني؟ ألن أخلُصَ منه أبدًا؟ ولكن بنيامين أقبل عليها بابتسامة وراحة لم تبدُ عليه من قبلُ، وكان ما جاء به عدم صبره على بُعده عنها، فهو لم يَرَها منذ شهور طويلة، منذ اليوم الذي أخبرته فيه عن نقشِ القلادة، وبعدها لم يَرَيَا بعضهما؛ حيث انشغل بمعرفة هويته وأصله، والآن عزم على أن يراها من جديد، فهو لم يعُد ذلك اليهودي البغيض، فأصله مسلم، فشجَّعه ذلك على رُؤيتها، وأخذ رأيَها فيما حدث له؛ ليرى هل ستصبح أقرب إليه أو ستبقى بعيدة؟
اقترب بنيامين من مريم، فسَلَّم عليها، وسألها عن حالها وأخبار دراستها، فكان ردُّها كعادته ببرود شديد لا يُطيقه بنيامين، لكنَّه لَم يكترث ببرودها، وسألها: أَمَا زِلْتِ تريدين شراءَ القلادة؟ "قال هذا الكلام وهو يُمسك القلادة بيده، وقد أخرجها من تحت ملابسه".
نظرت مريم إلى القلادة وهو يُخرجها، ثُمَّ قالت: وهل تريد حَقًّا أنْ تبيعَها، ألَم تقُل: إنَّك لن تبيعَها بمالِ الأرض؟ ثُمَّ إن كنت ستبيعها لِمَ تلبسها؟
• أتدرين - يا مريم - كم لي وأنا ألبسها بهذا الشكل؟
• وما يدريني؟
• منذ أن عقلت وأنا أعلمُ أنَّ هذه القلادةَ لي وألبسها، ورافقتني كلَّ تلك السنين؛ ولهذا أحببتها جِدًّا، وهي عندي أغلى من رُوحي، فهي صاحبتني في كل لحظات عُمري، فاستغربت مريمُ قولَه، وكيف تكون هذه القلادة ليهودي، وعليها ذلك النَّقش العربي! ثُمَّ تابع بنيامين قولَه: كانت تصحبني في سفري وإقامتي، وصغري وكبري، وفرحي وحزني، ولم أكن أخلعُها إلاَّ إذا اغتسلت؛ خوفًا عليها لا أكثر، فكانت رفيقتي وأنيستي دومًا.
• ومن أين حَصَلْتَ عليها؟ وكيف ليهودي أنْ يَلْبَسَ قلادةً عربيةً منقوشًا عليها نقشٌ فيه عبارة "يا محمد، أنت مسلم"، فأنا لا أجدُ لهذا تفسيرًا.
• التفسير ببساطة هو أنَّني أنا محمد، وهذه رسالة من والدتي؛ لتصلَ لي يومًا ما.
• ولكن ماذا تقول؟ أجُننت أم ماذا؟ كيف لمسلم أنْ يصبحَ يَهودِيًّا؟! لا، لا، هذا ما لا أصدقه، ألَمْ تَعِشْ يهوديًّا، ثم ألست إسرائيلِيًّا، ثم لم تعُد تدري ماذا تقول؟ وظهر عليها الارتباك، لا، لا، ماذا تقول؟ لم أعد أفهم.
• على مهلك، هوني عليك، فالأمرُ أصبح بالنسبة لي طبيعِيًّا، فقد مضى شهورٌ على هذا الكلام، وبدأتُ أستوعبه، وأرجو أن تستوعبي الأمرَ أنت أيضًا، فأنتِ أولُ مَن قال لي محتوى هذا النقش، ومِن يَومِها بدأت رحلةُ بَحثي.
ثُمَّ قصَّ عليها الحكاية كلها، وهي تنظر إليه باستغراب ودَهْشَة وعدم تصديق، ثُمَّ أنْهى كلامَه قائلاً: والآن أنا في مرحلةِ اتِّخاذِ القرار، فإمَّا يهودي، وإمَّا مسلم، فصرخت به صرخة أفزعته: ماذا؟! بعد كلِّ هذا الكلام تَحتاج إلى مرحلةٍ لاتِّخاذ القرار؟ وكيف تصبر على بُعدك عن دينك، وعن أهلك، عن الدين السمح الرحيم الحق؟ لا، لا يُمكن لعاقل أنْ يصبرَ على هذا، بل على العكس، فعودتك للإسلام يجب أن تكونَ مباشرة، ولا تتردد أبدًا، فلا تدري متى تَموت، وعليك أن تنقذَ نفسَك، ولا تؤجِّل إسلامَك، فأنت عليك أن تكونَ في ظمأٍ لدينك، وشوق له بعد كلِّ سني البعد هذه، وظلم اليهود لك ببعدك عن أغلى ما كنت تَملك.
• يا إلهي! كم أنت راعبة! أيعقل أن ترعبيني بالموت، وأنا أكلمك عن بداية حياة جديدة لي، أرجوكِ كوني رحيمةً بي، فضَحِكت مريم، ثُمَّ قالت: لا أقصد هذا، ولكن أقصدُ أن أوصِّلَ لك رسالةً أنَّ الوقتَ يَمضي، وعليك أن تستغِلَّه، وتكسب لحظاتٍ أطولَ وأنت مسلم.
• لو كنت أعلم أنَّ الحديثَ عن موتي سيُضْحِكك، لكنتُ تَحدَّثت به منذ زمن، فهذه أول مرة تضحكين معي منذ علمتِ أنِّي يهودي، شعرت مريم بالحياء، ثم قالت على استحياء: لا يُمكن أن أضحَكَ بالحديث عن موتِك، ولكنَّها عِظَة نَعِظُ بها كمسلمين؛ لأنَّ الموتَ حقيقة واقعة، ولكن إن كنت فهمتها من منظور آخر، فأنا آسفة.
• كم أحب هذا الحياء، وهذا الحياء وحْدَه ما يلفت نظري بأيِّ فتاة، رُبَّما لأنِّي كنت أفتقده، ولكنَّ هذا الكلام زاد من استحياء مريم، فلم تتركه يَحكي على راحته، بل قالت: أرجوك، وإنْ تغيَّر حالك فديننا لا يتغير، فهذا الكلام لا يَجوز، فأرجو أنْ تُراعي ذلك، ولا تكون علاقتنا إلاَّ في حدود ذلك؛ يعني: كزملاء وللضَّرورة فقط، والآن أستأذن؛ لأنَّ مُحاضرتي قد اقتربت.
وبعد أن ذهبت كَلَّم بنيامين نفسَه مُستاءً، وقال: كزملاء وللضرورة فقط، لا يا مريم، أرجوك، فهذا كنتُ أطلبه وأنا يهودي، والآن تُعطيني إيَّاه وبصعوبة رَغْمَ مَعرفتِك أنِّي أقترب من الإسلام، يا رب، والله الإسلام جميل، ولكن في الوقت نفسه أرغبُ في أنْ ألتقي مع من أُحِبُّ، ثُمَّ تَبَسَّمَ بينه وبين نفسه وذهب.
كانت مريم في هذا اليوم من أسعدِ الناس، ولَم يَمُر بها يومٌ في حياتِها أجمل منه، فمن لَفَتَ نَظَرَها يومًا، واكتشفت أنه يهودي - جاء واعترفَ لها أنَّه من أصل مسلم، فكانت تفكر في كلامِه طوالَ الوقت، فلاحَظَ أبوها ذلك التغيُّر، فسألها عن سبب حالتها الغريبة، فأخبرته أنَّ أمرًا غريبًا حَدَث معها اليوم؛ ولذلك فهي تُفكِّر فيه من عظم استغرابها منه، وأنَّ ما سمعته اليومَ لا يُصَدَّق أبدًا، فأثار كلامُها فضولَ أبي خالد، وسأَلَها عَمَّا حدث؛ لتستغربَ بهذه الطريقة.
فقَصَّت على أبيها الخَبَر، ولكنَّها وهي تحكي لفت انتباهَها تغيُّر وجه أبيها وتأثُّره، فخَشِيَت عليه، ولم تفهم سبَبَ ما يَحدث له، فقالت له: أبي، ما بِكَ؟ هل حدث لك مكروه لا سمح الله؟ فلن أكمل القِصَّة ما دامت أثَّرَتْ فيك هكذا، ولا أستطيع فَهْمَ ما يَجري، فهو مُجرد شاب يَهودي عَلِمَ أنَّه مسلم، ولكنَّ أباها أصَرَّ عليها بإكمال القِصَّة.
ولما أنهت القِصَّةَ، سألها: لِمَ لم تخبره بها من اليوم الذي قرأت فيه نقشَ القلادة؟ فقالت: إنَّها لم تَهتم به، ورُبَّما شُغِلَت يومَها، فذهب عن بالها، فهي لم تَفهَم يومَها إلاَّ أنه يهودي وَجَد قلادةً عربية لا أكثر، ثم سألته: لِمَ كل هذا الاهتمام؟ ولكنَّه لم يردَّ عليها، وسكت طويلاً وهي تنظر إليه، وتنتظر ما سيقول؛ لأنَّها أحَسَّت به، وأنَّ عندَه ما سيقوله، ثُمَّ ما لبث أن صرخ، وقال: هو، هو، يا إلهي! هو محمد ابن أخي، كنتُ أعلم أنَّ هذا الشابَّ يُمثل لي شيئًا مُهِمًّا، يا إلهي! هو ابن عمك يا مريم، نعم ابن عمك.
ولكن - يا ربي - أيعقل أنَّه يهودي؟! يا إلهي! كيف أصبح يَهودِيًّا؟ رحمكِ الله يا أمَّ محمد، كنت تشعُرين بأنَّ شَيْئًا سيحدث له، ولكن هل كنت تشعرين بأنَّه سيضيعُ، ويأخذه يهودٌ؛ ليبدلوا دينَه؟! يا ربي، لك الحمد على نعمتك؛ لأنَّكَ حَفِظْتَ ذلك الولَدَ بأن هديت أمَّه لفكرة القلادة، ولك الحمد؛ لأنَّكَ لَم تُمِتْه بعيدًا عن دينه.
ثُمَّ نظر إلى مريم وهو بكلِّ هذه المشاعر التي يَمتزج فيها: الفرح، والخوف، والتوتر، وقال لها: نعم يا مريم، هو فعلاً ابنُ عَمِّك الذي فقدناه بعد موتِ أبويه، وكُنَّا نظُن أنَّه مات معهما، وأن جثته فُقِدَت؛ لسببٍ من الأسباب، ثم صار يَمشي في الشقة كالمجنون، ولا يدري ما الذي سيعمله، وكيف يتصرَّف، ومريم كل ذلك الوقت تسمع أباها، دون أن تستوعبَ ما يَحدث، ودون أن تصدق، فبالصباح كانت مفاجأة بنيامين وأصله المسلم، والآن حَدَثت مفاجأة أكبر من سابِقَتِها، فكيف يُتصوَّر أنْ تكتشفَ في النِّهاية أنَّ بنيامين هو مُسلم، وليس ذلك فحسب، بل هو ابنُ عَمِّها أيضًا؟!
ولكنَّها لما رأت أباها في هذه الحالة، قَرَّرت أنْ تتماسَك حتى تكون عونًا لأبيها في هذه الساعة غير المتوقعة، وصارت تُهدِّئه؛ لأنَّها خَشِيَت عليه من صدمة لا يَحتملها؛ نتيجةَ ما حدث له، وتُحاول بكلِّ ما تستطيع؛ لتُهَوِّنَ عليه الأمر.
ولكنَّ أبا خالد فاجأها في الوقت الذي تظن فيه أنَّه سيصاب بمكروه أنْ طَلَب منها تبديلَ ملابسها؛ لتذهبَ معه لبيتِ ابن عَمِّها الذي كان مفقودًا، ففوجئت بهذا الكلام، وقالت له: لا يُمكن - يا أبي - فالساعة الآن الثانيةَ عَشْرَة، فنحن في منتصف الليل، والوقت...
ولكن أباها لم يدعْهَا تُكمِل، وأجبرها على أن ترضخ لقوله بعد أنْ بَدَأ يصرخ، ويقول: لا يُمكن أن أنتظرَ إلى الغد، لا أستطيع... ليس بمقدوري أن أبقى هنا، وابن أخي حي يُرزَق، ولا أكلمه وأحتضنه، ولا ينبغي لي أنْ أجلسَ دون أن أنقذَه مما هو فيه، فعليه أنْ يعودَ إلى دينه وأهله.
كانت الساعة الواحدة بعد متصف الليل لَمَّا قُرِعَ جَرْسُ باب بنيامين، فتساءل: مَن يُمكنه أنْ يأتِيَه في مثل هذا الوقت، ولكنَّ دهشته لم تكن لتُوصَفَ عندما فتح البابَ، ورأى أبا خالد ومعه مريم، فأيُّ شيء يمكن أن يأتِيَ بهما في هذه الحالة؟ فكل ما خطر بباله لا يكفي لأَنْ تأتي مريم، فمَجيء أبي خالد يُمكن أن يصدق، ولكن أن تأتي معه مريم، فهذا الذي لم يجد له تفسيرًا؛ ولذلك وَقَفَ دون أن يدعوهما للدخول، وأبو خالد يقف أمامَ بنيامين وهو يرى أخاه أمامَ عَيْنَيْهِ، فبنيامين أخَذَ أغلب ملامح والِدِه.
ولَمَّا رأت مريم دهشةَ الاثنين، قالت: ألن تسمحَ لنا بالدُّخول؟ عندها عاد بنيامين إلى وَعْيِه، واعتذر، ثم أدخلهما، وقال وكلامه يرتجف: أهلاً بكما، سعدت بالزِّيارة رغم تفاجُئِي بها، ولكنَّ أبا خالد لا يهمه الآن كل هذا الكلام، بل طلب منه مباشرةً أن يرى القلادة، فأثار ذلك إزعاجَ بنيامين، ونظر إلى مريم وعاتبها على كَشْفِ سِرِّه، فاعتذرت له وبررت بأنَّه لم يقل لها: إنَّه سِرٌّ، ولم يطلب منها أنْ تُخفِيَه.
فصرخ أبو خالد قائلاً: تُخفيه! وكيف تُخفيه؟ هيا أرني القلادةَ، فخلعها بنيامين، وأعطاها إياه، ففتحها، ونظر إلى شكلها، فإذا المواصفات نفسها، والنقش نفسه اللذان وصفهما له أخوه أبو محمد، فصاح أبو خالد وهو يبكي: نعم، هي القلادة نفسها، التي كلمني عنها أخي أبو محمد، يا إلهي! أنت محمد، أنت ابن أخي، فنظر إليه واقترب منه وصار يتحسسه، وهو يقول: نعم، أنت محمد، أنت ابن أخي أحمد، يا إلهي! ما أكرمَك! أعدت إلينا ابننا، ولم تُضيِّعْه، ولم تُبقِه عند اليهود...
وكل هذا الكلام يَحدث وبنيامين واقف لا حَراكَ فيه، ولا يدري ماذا يفعل؟ وماذا يقول؟ ولكنَّه بعد أن أفرغَ أبو خالد مشاعِرَه وهو يصرخ ويبكي، قال بنيامين: ما الذي تقوله؟ هل أنت جادٌّ؟ وهل فعلاً أنت عمي؟ يعني: أقدر أن أصلَ لأبي وأمي، وأعرف لِمَ تركوني وتَخَلَّوا عني لأُرَبَّى ضِمْنَ عائلة يهودية.
فما أنْ سَمِعَ العَمُّ هذا الكلام حتى هدأ، وأعاد توازُنَه؛ ليكونَ على قدرِ المسؤولية، التي وُضِعَ فيها، ثُمَّ قال: تَخَلَّوا عنك! ثم مسك القلادةَ، وقال: هذه أكبرُ دليلٍ على أنَّ أهلَك لم يتخَلَّوا عنك قطُّ، وخاصَّة أمك التي طالما كنتُ ألومها على تصرُّفاتِها، وكنت أتَّهمها بالجنون، خاصَّة عندما علمتُ بقِصَّة هذه القلادة بالذَّات، وقلت يومَها: كيف لهذين المجنونين أن يُبذِّرا أموالاً لمجردِ خوفِ تلك المجنونة؟ وما الداعي لهذا الخوف؟ ولكني اليومَ اكتشفتُ أنَّ أمَّك كانت على حق، وأنَّ أباك كان يصدق مشاعِرَ أمِّك؛ لأنَّه يشعر بها؛ لحبه الشديد لها، وإحساسه بها، فكم كانت مشاعر أمك صادقة! فقال بنيامين: ولكن كيف ثبت لك هذا، وأين هما؟
• رحمهما الله.
• ماتا وهما ذاهبان إلى المطار؛ ليعودا إلى سوريا بعد أن كان أبوك قد صَفَّى جميعَ أعماله هنا؛ بناءً على طلب أمِّك حتى يُربِّيَاكَ في سوريا في مُجتمعٍ مسلم؛ ليُحفظَ دينُك، ثُمَّ لتكونَ ناصِرًا له، وهما في ذلك الطريق أصابهما حادثٌ في السيارة، التي كانت تَحملهما وماتا، ثُم تسلَّمنا جثتيهما، ولكنَّنا لم نستَطِعْ يومَها معرفةَ أين ذهب وَلَدُهما، الذي هو أنت يا محمد.
مريم: عندها وعلى الأرجح في تلك الساعة، وفي الضَّوضاء التي حصلت كان هناك مَن خَطِفَك هو وزوجته، فأخذاك ورَبَّياك وغَيَّرَا دينَك.
أبو خالد: يا لَهم من مُجرمين هؤلاء اليهود، حَتَّى الدين إن قَدَروا على سلبه يسلبونه، فكيف تَجَرَّؤوا على ذلك؟ وكيف استطاعوا أن يَحرموا طفلاً من دينه، ويَسرِقانه ليُهوِّدانِه؟ ولكنَّ أبا خالد سكت لما رأى هو وابنته بنيامين والدُّموع تَنهَمِر من عينيه، ثُمَّ ما لبث أنْ أصبحَ يَجْهَش بالبكاء، فتركاه هكذا قليلاً؛ ليفرغَ مِمَّا يشعر به، ولما هدأ نظر إلى عَمِّه وتكلم بانكسار: هل كانت تخاف عليَّ، وتُريدُني أن أنصرَ الإسلام؟
• لَمَّا كان أخي يتكلَّم عن زَوجَتِه وخَوفِها على ابنها، كنت أقول: إنَّها جُنَّت، ولم تستوعب أنْ يَرزُقَها الله الولَدَ بعد تأخُّرها في الإنجاب لأكثرَ من عشرين سنة.
• وهل تأخَّرت إلى هذا الحد؟
• نعم، وكان أبواك قد تأَخَّرا في السنِّ حينَ رُزِقَا بِكَ، فأُمُّك كانت قد تَجاوَزَتِ الأربعين، فكان يصف لي أفعالَها، وكيف تقرأ القرآنَ؛ لتُسمعك كلامَ الله؛ حتى تألَفَه وتُحِبَّه، وتُكلِّمك عن الإسلام، حتى لما احتل اليهود فلسطين بَعَثَ أخي يومَها رسالةً لي، وكلمني عن أَلَمِه لهذا الحدث المُفجع، ثُمَّ بدأ يقول في رسالته: إنَّه من عِظَم تأثُّره، صار هو وزوجته يُكلِّمانِكَ عَمَّا حدث، وأذكر يَوْمَها أن سخرت من كلامِهما عندما قرأته، وأنَّهما يُوصِيانكَ بفلسطين ونصرتها.
• ثُمَّ بعد كل هذا الخوف صِرْتُ يهوديًّا، أُعادِي فلسطين، بل أُعادي الإسلام، كيف سيغفر الله لي؟ وكيف سأنجو من فعلتي؟
• لا يا بني، لا تقل هذا، فأنت لا تَعْرِف الله - سبحانه وتعالى - ولو كنت تعرفه، لعلمتَ أنَّه رحمن رحيم، يغفر الذنبَ، وخاصَّة لمثلك، أنت نشأت في بَيْتٍ يهودي رَغْمًا عنك، وحين تُسلم يَجُبُّ اللهُ عنك ما قبله، ويغفر كُلَّ ما سبق، فتصبح مخلوقًا جديدًا تُحاسب بعدها على أفعالك؛ ولهذا عليك بعد أن علمت دينَك، وتيقَّنْتَ أنَّه الحق - أنْ لا تتكبر وتؤجل، فكُن ذليلاً لله، فالله أعطاك العقلَ لا لتعطي نفسَك كُلَّ الوقت لاتِّخاذ قرارك، بل لتسخره لمعرفته وزيادةِ الإيمان به.
• أفهم كلامَك جَيِّدًا، وأنا لا أتكبر، بل وَدِدْتُ أن أعلمَه جَيِّدًا؛ لأدخلَ فيه بيقين.
• لا ألومك، ولكنَّ العالِمَ نفسَه يَموت وهو يتعلَّم، فإن أردْتَ أن تَعرِفَ الإسلام، فلن يكفي عمرك، ولذلك ادخُل فيه، وكلَّ يوم تعلَّم منه أكثر.
• سكت قليلاً، ثُمَّ قال: ما زلتُ أفكِّر في أمِّي التي حاولت غَرْسَ الإسلام فِيَّ، فالآن علمتُ مَن تلك المرأة التي تأتيني في مَنامي، لم تكن إلاَّ أمي، فهي محفوظة في عقلي الباطن، فأنا لم أسْتطِعْ نسيانَها؛ ولهذا كنت أراها دومًا، فهي رفيقتي في دَربي، ثُم نظر إلى مريم، وقال: هي تُشبِهُكِ في لباسها، فأنا لم أرَ وجْهَها جَيِّدًا؛ ولذلك لَمَّا رأيتُكِ شعرت أنَّ لك دورًا في حياتي، ولم أكن أعرف لماذا؟ ولكن كنت أقول: ربَّما لأنَّك تُشبهينَها أثَّرْتِ في نفسي.
مريم: هي ربَّما كانت تلبَس مثلَ لباسي؛ لأنَّنا نلبَس اللباس نفسه في سوريا، ولكن اعذرني، فلم يكن لي دَوْرٌ كما كنتَ ترغَب، ولكن ما يشفع لي اتِّباعي لديني، فديني لم يكن يسمح.
بنيامين: بل كان لك كُلُّ الأثر، فأنت من قرأ لي النقش.
أبو خالد: الآن وأهمُّ من كل هذا الكلام، عليكَ أنْ تنطقَ بالشهادة، والآن دون تأخير، فلم يَعُد هناك أيُّ مبرر للتأخير.
بنيامين: أرجوك عمي، اصبر عَلَيَّ، فأنا خائفٌ من هذه الكلمة، فلي أكثر من عشرين سنة وأنا يهودي، فكيف تُريدُني أنْ أُغيِّر حياتي في لحظة.
مريم: وكيف هي لحظة، فقد مضى لنا شهورٌ كثيرة منذ أنْ عَلِمْنا بذلك النقش؟ فلا تتردد، وعُد إلى حقيقتِك ودينك وأهلك.
أبو خالد: نعم يا بني، لَمْ يَعُد هناك داعٍ، فكما قلت لك: فلا تجعل للكبر دورًا في اتِّخاذ قرارك، وكن وَفِيًّا لدينك الحقيقي، هيا قل ورائي: أشهد... فوجد بنيامين نفسَه يُردِّد وراءَه: أشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله، وأشهد أنَّ محمدًا رسولُ الله، وهكذا عاد بنيامين؛ ليصبحَ مُحَمَّدًا، ويرجع إلى دينه الأصلي، وعَرَفَ أهلَه، وعاد لحضنه العربي المسلم، فشَعَرَ لأَوَّلِ مَرَّة بالأمان والدِّفء، وقام أبو خالد ليحتضِنَ ابنه الغالي، الذي فَقَده عندما فَقَدَ أخاه أحمد، فكانت عودةُ محمد ابن أحمد وكأنَّها عودة لأحمد نفسه، فظَلَّ يُقبِّله ويَحتضنه ويبكي هو ومحمد لوقتٍ طويل.
جاء موعدُ صلاةِ الصبح والجميعُ ما زالوا مُستيقظين، فطلب أبو خالد من ابن أخيه أنْ يَغْتَسِلَ بعد إسلامِه، ويتوضأ ليذهبَ الجميعُ إلى أقربِ مسجد؛ ليصلوا فيه، فذُهِلَ مُحمد من هذا الكلام واستثقله، فكيف يذهبُ إلى المسجد، ويُصلي بين الناس، فمنذ أيام فقط كان في مَعبدٍ يهودي، واليوم يدخُل المسجدَ، ثُمَّ وإن ذهب فهو لا يعلم كيفيةَ الصلاة؟
فهَوَّن أبو خالد على وَلَدِه كلَّ هذه المخاوف، ووَعَده أنْ يَشْرَحَ له كيف يُصلي بشكل مَبْدئي، فهو لا يَحفظ من القرآنِ شيئًا، وقال له: إنَّ الصلاةَ الجهرية لا داعِيَ أن يقرأَ فيها، ينصت فقط للإمام، ويكبر معه، وهكذا أقنعه وذَهَبوا جميعًا إلى المسجد، دخل محمد المسجد، ولأول مرة يشعُر وكأنَّه يدخل الجنة، وأحَسَّ بسعادة لم يَذُقِ طَعْمَها من قبلُ، ثُم بدأ يُصلِّي، فصار يَرْجُف، ولا يدري هل هو خوف أو خضوع وتذلل لله القهار أو رهبة.
ثم أتتْ صلاةُ الفريضة، وبدأ يقرأ الإمامُ فكان وكأنَّه يسمعُ كلامًا طالَما سَمِعَه، فتذكر أُمَّه وأم سليم وأم إسماعيل، وكيف كنَّ هنَّ من أسْمَعْنَه هذا القرآن، ثُمَّ بدأ يبكي ويبكي حتى انتهتِ الصَّلاة، وخرج من المسجد، وقد اطمأنَّتْ نفسُه وارتاحت.
عاد الجميع إلى البيت، وهم في طريق العودة قال محمد لعمه: تعرف - يا عمي - لَمْ أرَ أجملَ من الإسلام، فاليومَ أشعُر بنفسي، وأشعر بانتمائي، فطوال عمري كنت أشعُر بغربة أكرَهُها، وأشعر بضيق بسببها، لكنِّي اليومَ أشعر بأنَّ لي أهلاً وناسًا، وأشعر بجميع المسلمين أهلي وناسي على عكس ماضيَّ، فكنت أشعُر أني وحْدي لا ناصِرَ لي، وكنت دائمًا أبْحث عن المصلحة بيني وبين مَن أتعامل معه، وإن لم أجدْ أيَّ مَصلحة بيننا، كنت أخاف مِن تعامُلي معه؛ لأنَّ عدمَ حاجته لي يَجعلني مستهدفًا لديه.
أبو خالد: الحمد لله الذي أنقذَك، وأعادك لبيتك الحقيقي.
مريم: انسَ الماضي، ولا تتذكَّره إلاَّ لتحمدَ الله؛ لأنَّه أنقذَك وأنعم عليك.
محمد: الماضي لا يُمكن أن يُنسى، فهو موجود في ذاكرتي، فهو محفوظ لا يمكن نسيانه، ثم طلب منهما أنْ يَكتما إسلامَه؛ لأنَّ الوقتَ لَم يَحِنْ بعدُ ليُعلنَ ذلك.
كان محمد لا يزال يبعث بالتقارير للقناة اليهودية، ويعمل البرامجَ، فعمل برنامجًا وثائِقِيًّا آخر تناوَلَ فيه آمالَ الإسرائيليِّين في بَقائهم في فلسطين، فكان مضمونُ البرنامج يُوصِّل رسالةً أنَّ "إسرائيل" مهما بقيت، فهي إلى زوال، وكان بنيامين (محمد) يتعَمَّد أنْ يَأْتِيَ بيهود، سواء كانوا مفكِّرين أم مُحللين وجمهور، وكانوا جميعُهم لديهم الإحساس نفسه بزوال "إسرائيل"، وكان لهذا البرنامج صداه المُزعِج في الشارع والصُّحف الإسرائيلية.
ثم إنَّه بدأ يُجهِّز لقضيةِ إقامة ما صارت تُسَمَّى أمامَ العالم كله بإسرائيل، فالتقى مع كل معارضٍ أكبر من المعارض الذي قبله، وتكلموا جميعًا عن خطأ اليهود في إقامة هذا الوطن، ثُمَّ جاء بحاخامات لا يؤمنون بالصِّهْيَوْنِيَّة مطلقًا، ويؤمنون بعقوبة اليهود وحرمانِهم من هذه الأرض، وعمل برنامَجًا قَوِيًّا كانت إدارة القناة مُحتارة في قَبوله من عدمه، ولكنَّها في النِّهاية عرضته بِحُجَّة الديمقراطية وحرية الرأي، خاصَّة أنَّه من صحفي يهودي.
ولكنَّ هذه الديمقراطية لم تكُن على أحسنِ حال، وظهرت هنا على حقيقتها، فهي مَوجودة ما دامت بَعيدة عن كَشْفِ حقيقة اليهود، وكشف خَطَئِهم في سلب ما ليس لهم.
وبعد كَمٍّ كبير من الانتقادات والتهديدات للقناة، قامت القناة بفَصْلِ بنيامين عن العمل، وبات يشعُر أنَّه مقيدٌ لا يستطيع العملَ بِحُرِّية، خاصَّةً أن الصحيفةَ الصغيرة التي كانت أول مَن عمل فيها طردته منذ زمن؛ لأنَّها لم تقدر على مُعاداة اليهود، وتَحَمُّل تَهديداتِهم، وأمَّا الصحيفة الكبرى، فقد صارت تُضيِّق عليه، ولا تسمح له بكتابة أيِّ شيء، بل أصبحت تُدقِّق في أيِّ كلمة يكتبها، ثُمَّ جاءَتْها الأوامر بفَصْله، ففصلته...
وكانت الاستخبارات الإسرائيلية قد بدأت بمُراقبته، وعَلِمَت أنَّه قد أسلم، وأوصلت له تَهديدًا: إن بَقِيَ على الإسلام، ولم يعد لدينه، فإنَّه لن يهنأ أبدًا.
هنا ذهب إلى عَمِّه وكَلَّمه عن كلِّ ما يَجري معه، فنصحه بأنْ يُعلِنَ إسلامَه، ويترك هؤلاءِ نِهائِيًّا، ويُجاهدهم كمسلم، ثُم عَرَض عليه أنْ يعودَ إلى سوريا بعد أن يقيمَ دَعوة؛ ليُثبِتَ نَسَبَه لأبيه.
هنا طلب محمد من عمِّه أن يُزوِّجَه مريم، وقال له: إنَّه مُحتاج إليها في هذه الأيام، ويشتاق لأَنْ يَكونَ له أبناء يُوحِّدون الله، وينصرون دينَه، فوافق عَمُّه مباشرةً، وقال له: إنَّ موافقته هي أمر طبيعي، فوقوفهما معه هو وابنته واجبٌ عليهما.
أخبر أبو خالد ابنته، فشَعَرت بسعادةٍ كبيرة، ولكنَّها قالت لأبيها: إنَّها تخشى أن يكونَ إسلامُ محمد ضعيفًا، فهو عاش في أغلبِ حياته يهوديًّا، ولكنَّ والِدَها لامها لومًا شديدًا، وتعجب من قولها، وكيف تتكلَّم هكذا وابن عمها في أمسِّ الحاجة إليهما، وإن كان إسلامُه قريبًا وفيه ضعف، فعليهما أنْ يُعيناه على الثبات، فكيف وهو الآن يُقاوِم اليهودَ، ويُحارِبُهم ويَكْشِفُ أفعالَهم، حتى وصل الأمرُ لِأَنْ يُهَدِّدُ اليهودُ محمدًا.
فما أن سَمعت مريم هذا الكلام، حتى وافقت مباشرةً، فتزَوَّج محمد مريمَ، بعد أن أعلن إسلامَه، فلم يَعُد لإخفاء إسلامِه داعٍ بعد أنْ عَلِمَ اليهودُ بذلك.
حدث الزِّفاف وجاءت عائلةُ مريم، وحضرت الزفافَ، وفي هذا اليوم اتَّصل بأُمِّه إلين وأخبرها بزفافه، ففُوجِئت، خاصَّة لما قال لها: إنَّ زوجته مُسلمة، فجُنَّ جنونها، وقالت له: كيف له أن يتزوجَ بِمُسلمة وهو يهودي، فأخبرها الخبر الذي لم تشأْ أنْ تَسْمَعَه في حياتها، وأنَّه قد أسلمَ، بل عاد لدينه الحقيقي، وقَصَّ عليها قِصَّةَ القلادة، التي كانت تكرهُها كثيرًا، ولامها على سَرقتها هي وأفخاي إيَّاه، وكيف غَيَّرَا دِينَه وهَوَّدَانِه، ولَمَّا سألها عن حقيقةِ ما جرى، حَكَتْ له ما فعلت مع أفخاي؛ لأنَّها لم تعُد تقدر على الكذب، فأيقنَ أنَّهما سَرَقاه فعلاً، وحَوَّلاه إلى اليهودية.
حَكَت إلينُ لزوجِها ما سَمِعَته من مُحمد، وقالت له: إنَّ القلادةَ كانت هي العدوَّ الأكبر، الذي فَضَحهما، فشَمِتَ أفخايُ بِها، وقال لها: إنَّ غَباءَها هو من أوصلهما إلى هذا اليوم، فكيف تأتي بِمُسلم وتُربيه وتُنفق مالَها عليه، ثُمَّ أخبرها بأنَّه لم يُحِبَّ هذا الوَلَدَ يومًا، وكان بِمَثابة مُصيبة أُجْبِرَ على تَحمُّلها وتقبُّلها رغمًا عنه، فاستشاطت إلين غضبًا من لومه لها وشَمَاتَتِه بها، فصارت تسبه ويسبها إلى أن انتهيا إلى اختيارِ الطلاق، فطَلَّقَها وافترقا.
عمل محمد في صحيفة عربِيَّة كانت تصدر في أمريكا، وقَرَّر أن يَحكي حكايته للعالم في سلسلةِ مقالات سَمَّاها: "مسلم عاش في بيتٍ يهودي"، فحكى في هذه السلسلة عن أبيه وأُمِّه وكيف غرست أمُّه الإسلامَ فيه، ثُمَّ كيف قَبِلَ رجلٌ وامرأةٌ يهوديان، ورضيا أنْ يَظْلِما طِفْلاً مُسْلِمًا، ويُغَيِّرا دينَه، ويُهوداه، بل يُربِّيَاه على الكُره والحِقْد على أهْلِه وناسه، ثم حَكى قِصَّة القلادة وكل ما حدث له، وبَدَأتِ القصةُ تنتشرُ في الصُّحف العربية.
وأصبح مُحَمَّدٌ صحفيًّا مَشهورًا تُنتظر مقالاتُه الكاشفة لليهود، فهو أعلم الناس بهم، ويَروي قِصَصًا من ذاكِرَتِه، ثُمَّ أتى الوقتُ الذي قَرَّر فيه أن يَبُثَّ الصورَ والأشرطة التي صَوَّرَها لأعمال اليهود في فلسطين، فأَرْسَلَ أولَ شريط لقناةٍ يَثِقُ بحرفيتها وحيادها، وفِعْلاً عرضت هذه القناةُ الشريطَ، وكان هذا الشريط هو شريط إحراق شجر الزَّيْتون، وما حدث بعدها من اعتداءٍ للشُّرطة والمستوطنين على الفلسطينِيِّين، وكانت نتيجة عَرْضِ القناة للشريط أنْ غرمت مِئاتِ آلاف الدُّولارات، فكَفَّت عن قَبولِها لأيِّ شريط يُسيء لليهود، ولكنَّ محمدًا لم يَيْئَس، وظَلَّ يَبحث كُلَّ يوم، ويعرض شريطًا من الأشرطة.
رُزِقَ مُحمد بثلاثة أولاد، فالأَوَّلانِ كانا توْءَمين صَبِيًّا وبنتًا، وسَمَّاهما أحمدَ وزينبَ؛ ليَظل يَذكُر أبويه اللذين جاهدَا وقُتِلاَ في سبيل أنْ يُؤَمِّنَا له عيشةً في سبيل الله، وبعد سنة تقريبًا كان ميلادُ ابنهما الثالث؛ ليكونَ الأولاد الثلاثة وكأنَّهم توائم، فسَمَّاه مُحمَّدٌ "صلاح الدين" تأثُّرًا بتلك الطفلة سلوى، التي ما زالت موجودة معه هي وأمُّها وإسماعيل.
فبعد عَودَتِه لدينه وزَواجه أتى بِهم جَميعًا؛ لتكونَ أمُّ إسماعيل رَفِيقَةً، وأُمًّا له ومُرَبِّية لأطفاله مع مريم، خاصَّة أنَّ الأولادَ الثلاثة صاروا وكأنَّهم توائم، سَمَّى محمدٌ ابنَه بصلاح الدين؛ لأنَّه تَعَلَّم من سلوى أن ينجبَ الأطفالَ لأجل الدين وللدين فقط، واتَّفَقَ مع زوجته التي تأثَّرت بقِصَّة حماتِها أن يُربُّوا أبناءَهم على أن يكونوا ناصرين لدينِهم خادمين له، ويكونوا كلهم في سبيل الله، وأخذ العهدَ عليها بأنْ تَسْتَمِرَّ كذلك، خاصَّةً بعد أنْ دَخَل الخوفُ قلبَه بأنَّه من الممكن ألاَّ يستمرَّ معهم، مثل خوف أمِّه عليه.
ولم ينشأْ هذا الخوفُ إلاَّ بعدما حدث له حادثٌ؛ حيث حاول بعضُ الأشخاصِ اغتيالَه، وذلك قبل وِلادة ابنه صلاح الدين، وحدث ذلك حين كان عائدًا إلى بيته، فهَجَم عليه شخصان، وحاولا طَعْنَه بسِكِّين لولا أنِ استطاع الهربَ منهما، ورَكِبَ سَيَّارتَه، وأسرع بها حتى ابتعد عنهما، فخبأ ذلك عن مريم لأيام، ولكنَّه أخيرًا قَرَّر إخبارَها، وعَلَّل لها ذلك بأنَّه أمرٌ واقع لا ريبَ فيه؛ لأنَّ اليهودَ لن يتركوه، وهو يريد أن يوصيها بوَلَدَيه وبالوَلَد الذي تَحمله، وطبعًا كان "صلاح الدين".
وأوصاها أن تَجعلهم لله، ولا تبخلْ على الله بِهِم، بل تُربِّيهم ليكونوا ناصرين خادمين لدين الله، ورَغْمَ ضيقِ صَدْرِ مريمَ مما سَمِعت وخوفها على زوجها وحبيبها، لكنَّها وَعدَته أنْ تَحْفَظَ له أبناءَه ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
أنهى محمدٌ قِصَّتَه التي يَكتبها في الصَّحيفة، ووصل إلى أنْ حكى قِصَّة إسلامِه بعد مَعرفته بِحقيقته، ثُمَّ إنَّه نشر آخرَ شريط عنده، وهو الاحتفال في المعبد، وكل ما جرى فيه، وكلمات اليهود وكرههم وتَهديدهم بمعابِدهم للعَرب والمسلمين، وتربيتهم لأبنائهم على هذا الحِقْدِ ودَعوتهم الصَّريحة للقَتْل، وطَبْعًا فيه أطماعهم، وحلمهم بأنَّ وَطنَهم من النَّهر إلى النهر.
انتشر الشريطُ وكان مثلَ الثَّورة على اليهود، والفَضْح لهم، وأَثارَ جَدَلاً كبيرًا، وتكلمت الإذاعاتُ والقنوات عنه.
في هذه الأيام المُخيفة لكل مَن حول مُحمد عليه، قرع جَرْس بَيْتِه الجديد، الذي سكن فيه بعد إعلانِه لإسلامه؛ لأنَّه خرج من بيت أفخاي؛ لأنَّه لم يَعُد له الحق أن يَسكنَه، فلَمَّا فتح البابَ فُوجِئ بالضَّيْفِ الذي كان أمَّه إلين، فسُرَّ بِها كثيرًا، فهي مَن رَبَّته مهما حصل، واستقبَلَها أجْمَل استقبال، ولكنَّه لم يقدر أن يسلم عليها، فاعتذرَ لها، وبَيَّن لها أنَّ السببَ هو مَنْعُ دينه له، فهي تبقى غريبة عنه.
ثُمَّ عَرَّفها على زوجته وأبنائه، فحَمَلت أبناءَه وكأنَّهم أبناؤها، فهي ما زالت تَعُدُّ مُحَمَّدًا ابنَها، فرأى محمدٌ بإلين ذُلاًّ لَم يُرِد أن يراه في المرأة التي رَبَّته حتى وإن ربته على طريق خطأ، ولكنَّها ربته بحسب قناعَاتِها؛ ولهذا عَذَرها، فلَمَّا رأى ضَعْفَها زاد من إحسانه إليها، وتقريب أبنائه منها، حتى تشعر بالأمان، وبعد ساعاتٍ من الكلام واللَّعِب مع الأطفال، وعندما شَعَرت إلين بأنَّها لم تَخْسَر بنيامين، بدأت تتكلم في الأمرِ الذي جاءت من أجْلِه، وهو خوفها على محمد بعد كلِّ ما يَحكيه ويكتبه ضِدَّ اليهود.
فرَدَّ محمد وقال: يا أمي، لا تقلقي، فأنا أعمل ما أقتنع به، وهو في صُلب ديني، وأُومن بأنِّي مأجورٌ عليه، ثُمَّ أنا أنتصرُ للحق، وأحارب الظُّلم والطُّغيان، وأنتصر للضَّعيفِ، وأحارب الظالِمَ الآخذَ للحقوق بقوته، فسَعِدَت إلين لمناداته لها بأمي، فهي بَقِيَت أمه، حتى وإن عاد لدينه، ثم أخبرتهم أنَّها تعيش في بيتها نفسه الذي كان يعيش فيه مُحمد، فهو لها، وليس لأفخاي، وقالت لمحمد: إنَّها ستبقى في أمريكا من أجلهم، وتبقى لترى أبناءه، فوَعَدها أنَّه سيبقى يبرُّها، ولن يَحرِمَها من أبنائه.
بعد أيام عاد محمدٌ مسرورًا إلى بيته، وبشَّرَ زوجَتَه بأنَّه أتَمَّ حِفْظَ القرآن الكريم، الذي بدأ يَحفظه من أول يوم أسْلَم فيه، وأصبحت لُغته العربية قَوِيَّة، فهو كان يُصِرُّ على الكلام بِهَا في البيت؛ ليُتقِنَها، وليخرج الأولادُ مُتقنين لها، ولا يبتعدوا عن لُغة دِينهم وقرآنهم، فسَعِدَت مريمُ، وباركت له الحفظ، ووعدته بأنَّها ستعمل له احتفالاً كبيرًا، وستعمل له الكثيرَ من الحلوِيَّات الشامية؛ بَهْجَةً بحفظه.
وكانت أمُّ إسماعيل تسمَع كلامَهما، فجاءت وباركت الحفظَ، وبدَوْرِها وعدته أيضًا بأنَّها ستعمل له حلوياتٍ مِصْرِيَّة؛ لأنَّها تريدُ أن تَحتفل بابنها؛ لحِفْظِه القرآنَ الكريم، فكان محمد سعيدًا جِدًّا بهذه الأُلفة التي يعيش فيها، حتى إنَّه قال لأم إسماعيل: كم أنا سعيد بك يا أمي! وكيف لا أسعد وأنا أرى لي أُمًّا تَحتفل بي في مناسبةٍ كهذه المناسبة العظيمة؟! ثُمَّ نظر لها، وقال: أنت فعلاً أجملُ ما في هذا البيت، فصاحت به مريم: ماذا؟ وأنا أين ذهبت؟ لا، لا، أنا فعلاً صِرْت أغارُ من أمِّ إسماعيل، فرَدَّت أمُّ إسماعيل بحنانِها المعهود: وهل تغارُ البنتُ من أمِّها؟ فدَمِعَت عينا مريم، وقالت: لا طبعًا، وفعلاً أنت أعظمُ أمٍّ، فقال محمد: الحمد لله، لم أعُد أحتاج لتبرير مَوقفي بعد صُلحكما.
مريم: صُلحنا! وهل نتخاصم لنتصالح؟! فأمُّ إسماعيل هي أمٌّ ثانية لي.
أم إسماعيل: إذًا بعد هذا الكلام، فأنتما تستَحِقَّانِ أطيبَ المأكولات، فاستعدا للتخمة.
محمد: بالتأكيد سيحدث ذلك ما دُمتما تَعِدَانني بكُلِّ هذه المأكولات، ولكني أريدُ أمرًا بَسيطًا وهو أنْ أدعوَ أمي إلين؛ لحضور الاحتفال.
مريم: وهل ترضى أنْ تَحضُر احتفالاً بحفظ القرآن الكريم؟
محمد: سأدعوها وهي تُقرِّر، فقام واتَّصَلَ بها، فكانت سعادَتُها كبيرةً؛ لأنَّه تذَكَّرها في مثل هذا الاحتفال، ووعدته بأن تحضر.
ثُم أخبرهما بأنَّ سَالِمًا يزور أمريكا، وسيذهب لرُؤيته قبل أن يبدأَ الاحتفال، فذهب ليلتقيَ مع سالم الذي أنْهى دراسَتَه، وعاد منذ سنتين إلى فلسطين؛ ليُكْمِلَ جِهادَه في تقديم المساعدة لجرحى الحروب والاعتداءات.
كان محمدٌ في طريقِه للقاءِ سالم، فكانت دهشتُه كبيرة عندما رأى سيلينا صاحبته اليهودية في الماضي، فجاءت وسلمت عليه بحرارة، ولكنَّه لم يقبلْ أن يسلم عليها، ولَم يرضَ أنْ يُصافِحَها، فظهر الغيظُ على وجهها، فبَرَّر فعلَه لها بأنَّ دينَه لا يسمح بذلك، وهو مُضطر لأَنْ يَتَّبِعَ تعاليمَ دينه؛ لأنَّه اختاره ويُحِبه، وبعد حديث ليس بالطويل طلبت أنْ تَلْتَقِي هي وهو وأفيغدور، وأخبرته أنَّها هي وأفيغدور مخطوبان، فقال لها بسخرية: إنَّهما يليقانِ لبعض، فزاد ذلك من غَيْظِها وعَزمها على فعل ما جاءت من أجله، وهو الذي شَكَّ فيه محمد، وسألها: كيف وصلتِ له؟ فردَّت: إنَّها صدفة.
• كيف صدفة، والصدفة يُمكن تصديقها بكلِّ الأحوال إلاَّ بهذه الحالة؟
• شئت أم أبيت، فإنَّها صدفة، ولم أتوقَّع أن أراك قطُّ، ولكن كوننا التقينا فإنِّي أطلب منك أنْ نلتقي بعد ساعتين أنا وأنت وأفيغدور.
• بعد ساعتين! وهل حاجتكما لا يُمكن أن تنتظر إلى الغد؟
• طبعًا لا، فأفيغدور لديه معلومات تَهمُّك عن سارة التي كما علمت أنَّها أختك.
• هي ليست أختي، فأنا عربي مسلم، وهي أمريكية يهودية.
• على كلِّ حال، فهي أختك ولو في الماضي.
• وما هذه المعلومات؟
• المعلومات إن كشفت فسَتُؤذي إلين.
• أمي!
• أليست هذه أمريكية وأنت عربي، فكيف هي أمك؟
• كما قلتِ في الماضي، ولكن كيف ستؤذيها؟
• المعلومات بالتفصيل عند أفيغدور، ولا أقدر أنْ أفيدَك بشيء إلاَّ معلومات تتحدث عن دَوْرِ إلين في مَقتل سارة، والأدلة عند الشُّرطة، ولكن هناك تفصيلات لا يقدر أنْ يطلعَك عليها إلاَّ أفيغدور، أفتعلم أنَّه أصبح صَحفيًّا كبيرًا؟
• صحفِيًّا كبيرًا! ثُم تَبَسَّم ساخِرًا، وقال: لو رأيت بعيني، لَمَا صدقت، ولكن سأكون على الموعد بإذن الله؛ لأرى ما عندكما، وإن كنتُ متأكِّدًا أنَّ أمي لم تكن تعرفُ سارة مُطلقًا.
ورغم عدم اقتناع محمد بكلامِها، ولكنَّه أكَّد لها بأنَّه سيأتي للعنوان.
ذهب محمد؛ ليلتقي وسالِمًا، وجلس مع حبيبه الذي رافقه منذ سنوات الجامعة الأولى، فكان سالم بالنسبة لمحمد الهواء الذي يتنفسه من حينٍ لآخر؛ حَتَّى لا يَموت، فهو أولُ مَن عَرَّفه بالإسلام، وكان بيتُه أولَ بيت سَمِعَ فيه القرآن، الذي صار اليومَ في صدره، ولن يُفارِقَه، وبقيا لوقتٍ مع بعضهما وهما يتكلمان عَمَّا حدث معهما، ثم حكى محمدٌ لسالم عن سيلينا، وكَلَّمه عن شُكوكِه تُجاهها، وأنَّه خائف منها، فنَصَحَه سالِمٌ بأنْ لا يذهب إليهما، وأنَّهما يكذبان.
ولكنَّ محمدًا قال له: إنَّ عليه أن يذهب، فهو لا يتأكد من شكوكه، فطلب منه سالم أنْ يُرافِقَه، فرفض محمد؛ لعدم قَبول سيلينا لهذا، فأَصَرَّ عليه أن يتبعه، ويراقب الأمر، فوافق محمد، واتَّفَقا على ذلك.
اتَّصل مُحمد بمريمَ، وأخبرها عن سيلينا، وأنَّه رآها، ويشعر أنَّ الاستخبارات الإسرائيلية هي مَن بَعَثَتْها؛ ولذلك وَصَّاها بالأولاد إن حدث له مكروهٌ، فارتعبت مريم من حديثه، وقالت له بأنْ يعودَ للبيت مُباشَرَةً، ولكنَّه طمأنها، ولم يذكُر أنَّه سيذهب ليلتقيَ معها ثانية.
لحق سالم بمحمد مِئات الأمتار، ولكن هناك من انتبهَ إليه؛ لأنَّهما مراقبان منذ البداية، وفَجْأَةً وجد سالِمٌ نفسَه مستهدفًا من ثلاثة أشخاص يُحاولون ضربَ سيارته، فانشغل بنَفسِه وإنقاذِها، وبالكاد قَدَرَ على ذلك، ولسبب وحيد هو عدمُ رغبةِ هؤلاء الكبيرةِ في قَتْلِه، ولكنَّهم ظهروا وكأنَّهم سيشغلانِه لا غير، فأيقن أن محمدًا في خطر.
وعندما علم أنَّه نَجا من هؤلاء، ذهب ليحاولَ الاتصالَ بأبي خالد، الذي لم يَجده في بيته، فاتَّصَلَ على بيتِ مُحمد، واضطر لإخبارهم بما حدث، وكَلَّمهم عن ادِّعاء سيلينا بقتل إلين لسارة، فارتعب كلُّ مَن في البيت، وقلقوا وأيقنت إلين التي تعلم يقينًا أنَّها لا تعرف سارة بأنَّ ذلك لم يكن إلاَّ لاستدراج مُحمد، وعلمت أنَّ مُحمَّدًا لو قُتِلَ سيُقْتَل بسببها.
أمَّا العَمُّ فقد خرج مسرعًا ومريم معه إلى العنوان، فكان وصولُهما مُتزامِنًا مع وصول سالم إلى تلك الشَّقَّة، فلما دخلوا حيث وجدوا البابَ مفتوحًا، علموا أنَّهم أَتَوْا مُتأخِّرين، وكان مُحَمَّدٌ قد استُشهد برَصَاصِ اليهودي البغيض أفيغدور، الذي هرب هو وسيلينا اللَّذان سَكَنا في الشَّقَّة بجوازي سفرٍ ألمانِيَّيْنِ، وبالطبع مُزَوَّرَيْنِ؛ حتى لا يعرف أنَّهما إسرائيلِيَّان، وهربا من العقاب.
بعد أن هرب أفيغدور وسيلينا، ودخلا فندقًا باسميهما الحقيقِيَّيْنِ، فلم يعودا بحاجة للتزوير، بل على العكس، فاسماهما المزَوَّران أصبحا مطلوبَيْن، وبعد تيقُّنهما من نجاتِهما، سألت سيلينا أفيغدور: لِمَ أقدمَ على قتل بنيامين؟ فما دَفَعَها معروفٌ، وهو أنَّ بنيامين أهانَها كأنثى عندما فَضَّل عليها عربِيَّات، بينما أفيغدور ما الذي دفعه لهذا العمل؟
فَكَّر أفيغدور طويلاً، وحاول أنْ يَجِدَ سببًا لقتله لبنيامين أو أذِيَّة عملها بنيامين معه، ولكن لا فائدة، فرَدَّ عليها أنْ لا سببَ لذلك إلاَّ المال.
• كم أنت جشع فقط لأجل المال، تقتُلُه مع عدم أذِيَّتِه لك؟
• ألَم تقتليه أنت أيضًا؟ ثُمَّ هل تَفْضِيلُه للعربِيَّات عليك سببٌ كافٍ، فهو عربي ومن الطبيعي أن يُفضِّلَ العربيةَ عليك؟ فانزعجت من كلامه، وقالت: لا، ليس من الطبيعي، وحتى ولو كان عربِيًّا لا ينبغي له أنْ يُفضِّل أيَّ امرأة عليَّ بعد أن رآني، فأنا سيلينا أجملُ البنات.
• كم أنت مغرورة يا سيلينا!
• وكم أنت جشع يا أفيغدور! وكونك عملتَ ما طلبَتْه الاستخباراتُ منك، فانعم بالمال الكثير الذي وُعِدْتَ به.
• وستنعمين أنت أيضًا، فأنت أيضًا وُعِدت أم نسيت؟
هكذا قُتِلَ محمدٌ برَصاصة في قلبه، الذي حَمَل القرآنَ قبل أنْ يَحْمِلَ هذه الرصاصة، ورَصاصةٍ في رأسه، الذي كاد يُمحى الإسلامُ منه لولا أنْ عاد ومَلأه بهذا الدين الرحيم، الذي يدعو للتوحيد والسلم والأمن، ومات مُحمَّد بعد أن عمل ما يقدر عليه من نُصرة دينه، فكان وَفِيًّا لأمه التي غرستِ الإِسلامَ في قلبه، وعمل ما كانت تُحِبُّ أن يعمل؛ لأَنَّها صدقت في نيتها، وعرفت كيف تُعْلِمُه أصلَه، فكانت القلادةُ بِمَثابة الفِطْرة لكل إنسان، إنْ فَهِمَها وفتحها علم أنَّه مسلم، وعليه بعدها أن لا يقفَ، بل أن يعرف كيف يكون مُسلمًا، كما فعل بنيامين، فلَم يكتفِ بمعرفة أنَّه مسلم، بل أكمل المشوار، حتى عرفَ دينَه، وعمل ما يُمليه عليه هذا الدين.
وكانتِ القلادةُ كتاريخِ وماضي المسلم، فإنْ عرف أنَّ له تاريخًا، وأنَّ أجدادَه أبو بكر، وعمر، وصلاح الدين، ومحمد الفاتح، فلا يكفيه ذلك، بل عليه أن يغوصَ؛ لِيَعرِفَهم، ويكون على طريقهم، كما غاص بنيامين في أصله، وعرف أنَّ طريقه واضحٌ، فمشى فيه، كما كانت المرأة التي رمزت لأُمِّه كالضمير الذي يصاحِبُ صاحِبَه، ويَحُثُّه على عمل الخير، فإِمَّا أن يُصغيَ له فينعم، وإمَّا أن يتركه فيَشْقَى.
حمل العمُّ ابنَ أخيه محمدًا، وقَبَّلَه وشَمَّه، وجاء سالم وعمل عملَ أبي خالد نفسه، فهو صديقه وحبيبه الذي في الأمس كان يهودِيًّا بَغيضًا له، واليومَ أصبح شهيدًا بين يديه.
جاء دورُ مريم الحبيبة إلى قلب زوجها، التي كانت واقفة باطمئنان تنظُر إليه وهما يُقبِّلانِه، وتُعيد الذِّكرياتِ، ثُمَّ تذكَّرت آخرَ الكلمات، فمنذ ساعاتٍ كان يضحك ويُمازِحُهم، والآن فالدَّم يَملأُ جَسَدَه وهو مُسَجًّى لا حَراكَ فيه.
اقتربت منه وجَثَت على رُكبتيها بجانبه، وهي تنظر إليه وكأنَّها تريدُ أن تَملأَ عينيها منه، ثُمَّ انحنت وقَبَّلت جبينَه، وعندها انهمرت دُموعها، فها هو الحبيب يُفارقها وبأيدِي مَن؟ بأيدِي مَن كانت تعتقد أنَّه منهم، وفي النِّهاية صار زوجَها وحبيبَها وابنَ عَمِّها.
كان احتفالُ العائلة باستشهاد محمد لا بحفظه للقرآن الكريم، وكانت مريم وأم إسماعيل تَذْرِفان الدَّمعَ، وظَلَّ مُنهَمِرًا لأيام، مُحتسباتٍ راضياتٍ بما قَدَّره الله، ولكن كانت هناك مَن تصرُخ وتبكي بلا صبر وهي إلين، ويُهَدِّئانِها، ولكنَّها مستمرة بصُراخها، وهي تقول: هذا ابني، هذا مَن رَبَّيْتُه، هذا حبيبي، ومريم تقول لها: اصبري، هذا قدرنا، هكذا كتب الله، وإلين تصيح: كيف أصبر وابني راحَ؟ كيف أصبر ولم أعُد أراه؟
ثم نظرت لصَبْرِهما واطمئنانِهما، وقالت: قلن لي كيف أصبر، فلا أقدر أن أكون مثلكما؟ فردَّت مريم: محمدٌ أحبُّ الناس إلينا، ولكننا نصبر؛ لأنَّنا نحتسبه عند الله شهيدًا، فهو قُتِلَ بأيدي اليهود، وهو أراد هذا الطريقَ؛ لأجل الشهادة، وقد حصل عليها، فما يصبرنا ويرضينا أنَّ الله - سبحانه - وَعَدنا بالجزاء الحسن لمن يقتل في سبيله.
ثُم قالت أم إسماعيل وهي تَحترق حزنا ودموعها لا تقف: مات محمدٌ؛ لأنه اختار اللهَ ونُصْرَةَ دينه، والحمد لله قتل بعد أنْ أتَمَّ حِفْظَ كتاب الله، فهذا كُلُّه يُخفِّف عَنَّا، فردت إلين، ولكنَّه مات بسببي، فهو لو لم يكن سمع بأنِّي مُهَدَّدة من الشرطة، لَمَا ذهب.
مريم: نحن لا نفكر هكذا، فاليهود سيقتلونه شئنا أم أبينا بهذه الطريقة، أو بغيرها.
إلين: أراكما تتألمان، ولكن كيف تقدران على الهدوء أكاد أُجَن؟
مريم: تَصْبرين إن علمت أنَّه ذهب لدار خيرٍ من داره، ثُمَّ ازداد بكاؤها أكثر وأكثر، وجاءت بأبنائها تضمُّهم، فهي الآن بمثابة الأب والأم، ثُمَّ قالت: سأكون على العهد بإذن الله يا مُحمد، وسأحفظ أولادَك بإذن الله بقدر استطاعتي.
دفن محمد في سوريا، فقد كان قد حصل على الجنسيَّة السورية بعد تَخَلِّيه عن الإسرائيلية، ثم أبقت مريم أبناءَها في سوريا؛ ليعيشوا جميعًا في البلد الذي طالما تَمَنَّت جدتهم أن يعيشَ أبوهم فيه، وأرادت أن تعملَ لأولاد محمد ما حُرِمَ هو منه، ثم سافرت مع أبيها هي وأم إسماعيل، التي تُرافِقُها إلى أمريكا؛ ليصفيَ أبو خالد أعمالَه، وتنهي هي كُلَّ أمورها، مع أنَّها كانت تنوي إكمالَ دراستها العُليا هناك، ولكنَّها ضحَّت بذلك؛ من أجل أولادها، وعزمت أن تدرسَ في بلدها.
فلَمَّا دخلت بيتَها، وجدت أنَّ إلين ما زالت في البيت، فاستغربت، ولكنَّها لم تعلق، وظَنَّت أنَّها بَقِيَت؛ لأنَّه بيتُ محمد، ولكنَّ إلين فاجأتها لما نظرت إليها، وقالت بلُغة عربية ركيكة: "أشهد أن لا إلهَ إلا الله، وأشهد أنَّ مُحمَّدًا رسولُ الله"، ولكنَّ مريم لَم تعلمْ ماذا تصنع؟ ونظرت إلى إلين طويلاً، ثُمَّ قالت: هل أنت جادَّة؟ وهل فعلاً أسلمتِ؟ ولِمَ؟
• لأنَّه الدين الحق، فأنا منذ أسبوعين وأنا أقرأ لبنيامين أو مُحمد على الأصح، ثُمَّ قرأتُ من مَكتبته عن الإسلام، فعَلِمْتُ أنَّه الدين الحق، فمن يَبَرُّ بِمَن رَبَّته رغم كلِّ ما عملته معه، حتى إنَّها كانت ستَتَسَبَّب له في أَن يحرق بالنَّار لو أنَّه لم يَعُد، فهذا الشخصُ ينتمي حَتْمًا لدين كُلُّه رحمة وسلام، فطارت مريم من الفرح، وباركت لَها، ثُمَّ قالت: يا الله، لو أنَّ مُحمدًا علم بإسلامك كم سيسعد! فدَمَعَتْ عَيْنُ إلين، وقالت: ولكنَّه لا بد أن يأتِيَ اليومُ الذي يعلمُ فيه، وهو يومُ الحساب.
• إن شاء الله، ونكون من أهلِ الجنَّة جميعًا.
• هل تقبلين أن أذهبَ معكِ إلى سوريا؛ لأُرَبِّيَ أبناءَ مُحمد؟
• أكيد، ولِمَ لا أقبل؟ ثُم دخلت أمُّ إسماعيل، وعَرَفَتِ الخبر، فسَعِدَت به، وباركت، ثُم وَصَّت مريمُ إلينَ أن تَمشي في الدينِ خُطْوةً خطوة، وعندما تأتي إلى سوريا، ستعلمها بإذن الله كُلَّ شيء.
فظَلَّت إلين في أمريكا؛ لتكملَ إجراءاتِها؛ حتى تقدرَ على الدُّخول إلى سوريا، وأمَّا مريم فعادت مع أبيها وأمِّ إسماعيل؛ لأن الأخيرةَ ليس لها أحد في أمريكا، وهي ترغب أن تعيشَ في دولةٍ عربِيَّة، خاصَّةً أنَّها وجدت مَن تسكُن معهم، وتَثِقُ بِهم؛ ولذلك سافرت معهم.
وصلت إلين إلى سوريا بعد أشهرٍ، فإذا بها مُحجَّبة، فكانت مُفاجأةً للجميع، فهم أصَرُّوا عليها أن تدخلَ الدينَ خُطوة بعد خطوة، ولكنَّ إلين قالت لهم: إنَّها مُقتنعة بما تصنَع، ولَمَّا أسلمت كانت قد اختارته دينًا لها بِكُلِّ تعاليمه، وهي تريد أنْ تلحقَ بنفسها قبل أن تَموت؛ عسى أنْ يَغْفِرَ الله لها، فأخبروها أن الإسلامَ يَجُبُّ ما قَبْلَه، فسعدت بهذا الكلام، وبدأت حياتَها من جديد، وكانت جَدَّةً لأبناء محمد، وأبناء أم إسماعيل أيضًا.
قامت الحرب بين العرب واليهود في 1973، فكانت أملاً جديدًا للعرب بأنَّهم يُمكن أن يُحاربوا هذه العِصابة المغتصبة، وكانت رسالةً للعرب بأنَّهم لو اجتمعوا، لعَمِلوا شيئًا، وكانَتِ الحربُ بُشرى لمريم، خَاصَّةً أنَّها السنة نفسها التي ولدت فيها صلاحَ الدين، فتَمَنَّت أن يكونَ ابنُها كصلاح الدين، ويُحرِّر القدس.
كانت تربيةُ الأطفال الصِّغار صَعبة على مريم بغياب محمد، ولكنَّها صَمَّمَتْ واستعانت بربِّها؛ لتوفي بعهدها لزوجها.


انتهت بفضل الله









عرض البوم صور ابو فتحي   رد مع اقتباس
قديم 06-12-2013, 07:51 PM   المشاركة رقم: 30
المعلومات
الكاتب:
ابو الخواطر
اللقب:
عضو ذهبي
الرتبة
الصورة الرمزية
 
الصورة الرمزية ابو الخواطر


البيانات
التسجيل: Sep 2013
العضوية: 17683
المشاركات: 3,402 [+]
بمعدل : 0.89 يوميا
اخر زياره : [+]

التوقيت

الإتصالات
الحالة:
ابو الخواطر غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : ابو فتحي المنتدى : القصص والحكاوى
افتراضي

واخيرا ابو فتحي كمل القصة
يا معلم يسلمو يسلمو يسلمو يسلمو يسلمو
ايديييييييييييييييييك
وهسا بنبلش نقرا فيها بكل رواقة
الله يسعدك
اخوي ابو فتحي
مشكووووووووووووووووووووووووور على القصة الاكثر من رائعة









توقيع : ابو الخواطر


قال تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ *
وَلَوْشِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ
عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْتَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )

عرض البوم صور ابو الخواطر   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مسلم, بامحمد, بعنوان, رائعة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
قس وشيخ مسلم زينب رضى القصص والحكاوى 14 18-09-2013 11:29 PM
رجل مسلم أسلم على يديه كل من كان في الكنيسة yoyo_yoyo القصص والحكاوى 2 03-07-2009 03:24 PM
الى كل مسلم ابن السلطان الاسلاميات العامة 1 03-07-2009 12:54 PM
نزعة خير في قلب مسلم yoyo_yoyo القصص والحكاوى 1 25-06-2009 02:33 PM


الساعة الآن 02:05 AM.


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir